التسلّل عبر الحدود مع المكسيك، لغرض اللجوء أو العمل في الولايات المتحدة، مسألة مزمنة. رغم كلّ الضوابط والحراسة والحواجز، دخل الملايين من دول أميركا الجنوبية، وبقوا في أميركا بصورة غير مشروعة. عددهم يربو الآن على 12 مليوناً. وفي أكثر الأوقات جرت تسوية أوضاعهم أو تعمّدت السلطات الأميركية، غضّ الطرف عن تواجدهم اللامشروع، لحسابات اقتصادية (يد عاملة رخيصة) وسياسية انتخابية (مداراة لأصوات الجالية اللاتينية).
لكن مقاربة إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للموضوع مختلفة، فهي لا تتعامل معه كمشكلة حدودية سيادية فقط، بل أيضاً وأساساً كمسألة اختلاط غير مرغوب، وبما يستدعي إغلاق باب الهجرة واللجوء إلى أميركا إلى أقصى الحدود، من أجل "حماية الأجندة العرقية للمتشددين البيض"، على حد تعبير أحد المعلّقين.
الإدارة تقول إنّها قررت تطبيق القانون بحذافيره، ومن دون أي ذرة من التسامح، وإحالة المتسلل المخالف إلى المحاكمة. على الأقل ليكون ذلك عبرة للغير. ولم يكن هناك أي اعتراض على تطبيق القانون المعمول به في هذا الخصوص منذ 2005، والقاضي بمعاقبة المخالف بالسجن لمدة تتراوح بين ستة أشهر وسنتين.
لكن تنفيذه لم يسبق منذ ذلك الحين أن شمل فصل الأطفال والصغار عن ذويهم اللاجئين الهاربين من الفقر والعنف في بلدانهم، وإيداع هؤلاء الأطفال في مجمّعات أقرب إلى "الأقفاص" ريثما تنتهي محاكمة أهاليهم المخالفين.
إجراء فجّ غير مسبوق أثارت قساوته موجة عارمة من الاحتجاج والرفض، شاركت فيها مروحة واسعة من الدوائر والأوساط المدنية والحقوقية والسياسية والإعلامية؛ من بينها السيدة الأولى سابقاً لورا بوش التي كتبت مقالة في صحيفة "واشنطن بوست"، لإدانة الخطوة "القاسية" الخالية من الشفقة. حتى السيدة الأولى حالياً ميلانيا ترامب، أعربت، عبر المتحدث باسمها، عن عدم رضاها على مثل هذا التدبير الفظ.
لكن الإدارة تعمّدت القسوة لتحقيق ما هو أبعد من العقاب والردع، توقيتها يشير إلى ذلك. فالإدارة لجأت إليها في ذات اللحظة التي يناقش فيها الكونغرس أكثر من مشروع لإصلاح قانون الهجرة. ترامب توخّى بذلك التأثير على مجلسي الشيوخ والنواب، لسنّ قانون حسب مواصفاته.
يذهب، اليوم الثلاثاء، إلى الكونغرس ليحثّ المشرعين على صياغة قانون هجرة، وفق مواصفاته المتشددة جداً في قبول المهاجرين واللاجئين، وعلى أن يتضمن بنداً بتخصيص 20 مليار دولار لبناء الجدار على الحدود مع المكسيك. احتمال شبه مسدودة طريقه. خاصة في مجلس الشيوخ.
ترامب متشبث بموقفه ولو رفضه الكونغرس. يستقوي بدعم شعبوي يحاكي الشعبوية الأوروبية تجاه المهاجرين واللاجئين. أكثر من 75% من جمهور المحافظين يقف إلى جانبه. معظم رموز الجمهوريين في الكونغرس، يتجنّب معاكسته في هذا الملف وغيره.
ومع أنّ الأغلبية تقف في صف دعاة الاستمرار في فتح أبواب اللجوء والهجرة، إلا أنّ المبادرة ما زالت بيد البيت الأبيض. خطابه التخويفي من " تحوّل كل أميركا إلى مخيم يأوي اللاجئين" يلقى صداه الواسع. يتكئ على مثل هذا الاحتضان ليضغط على الكونغرس، من أجل التشدّد في شروط الهجرة واللجوء.
والأخطر أنّ هذا التوجه يأتي في وقت انتعش فيه الخطاب العنصري في أميركا، وبما يشد العصب الانعزالي ويزيد النفور من الآخر. حتى لو كان هذا الآخر من صنف الحليف أو الشريك أو المتعاقد مع أميركا.
وما يزيد المخاوف لدى جهات كثيرة، أنّ هذا الانكفاء يحصل في لحظة يتزايد فيها ضمور المؤسسات الأميركية، وضعف الثقة العامة فيها. مما يفسح المجال أمام الفردية المهيمنة الآن في واشنطن، لترسيخ خطابها القائم على التوجس من الغير وتجذير النفور منه، إلا إذا نجحت حملة التصدي لهذا التوجّه التي بدأت تطل برأسها عبر مزيج من التحرّكات والتحذيرات والاحتجاجات المدنية والسياسية التي تبدأ، اليوم الثلاثاء، على شكل تحركات وتظاهرات تزامناً مع جلسات الكونغرس وفي جواره، والتي قد تتواصل مع حملة انتخابات الكونغرس الهامة في نوفمبر/تشرين الثاني القادم. فعلى نتائج هذه الانتخابات يتوقّف الكثير من مصير التوجّهات الترامبية.