باتت سارة وأختاها الصغيرتان فاطمة وسمر، علامات مميزة أمام جامع الفاتح في مدينة إسطنبول التركية، حيث يبعن عبوات المياه. وأصبح لهن أصدقاء كثر، بعد أن عرف أصحاب المحال أنهن بنات لشهيد سوري ويعلن أمهن المستأجرة بيتاً بـ700 ليرة تركية شهرياً في منطقة كرجمرك.
إذ لا ضير لدى سارة (11 عاماً) من سرد قصة هروبها مع أخواتها من مدينة حلب السورية،
بعد قصف حي الأنصاري في العام الماضي، ومقتل أبيها وأخيها الوحيد. وهذه واحدة من جرائم العصر الكامنة في السكوت على بقاء نظام الأسد وإعادة إنتاجه دولياً.
سارة، المقبلة على الحياة، تجوب وأختاها سريعاً على نوافذ السيارات المتوقفة على إشارة المرور. وببعض الكلمات التركية، تسوق فقرها وجرائم الأسد مع عبوة المياه.. وبليرة تركية واحدة، تفضح، حتى قوانين منع عمالة الأطفال وعدم تطرق الائتلاف الممثل للسوريين، ولو مروراً، لقضية عمالة الأطفال وتسول السوريين، كما أكد لـ"العربي الجديد" عضو الائتلاف أحمد عوض.
تقول سارة لـ"العربي الجديد"، وعلى عجالة، كي لا يفوتها زبون ظامئ أو متبرع يدفع أكثر من ليرة ثمن شربة ماء: "عمو بدنا نعيش، وبطلّع أنا وأخواتي 40 ليرة كل يوم".
وترد على سؤال " العربي الجديد" حول ماذا كانت تدرس، دون مواجهة بعينيها اللامعتين "أي مدرسة، والله إذا ما بنشتغل بنموت من الجوع".
وفي مكان غير بعيد، يتبعك أطفال سوريون في "أكسراي" ليبيعوك المناديل، أو يطلب بعضهم مالاً، بعد سرد حكاية التهجير أو شكايات عن الغلاء في تركيا وقسوة الحياة.
اقرأ أيضاً:
نقص الأدوية يهدد ملايين السوريين
والموجع، خلال جولة "العربي الجديد"، إضافة إلى مشاهد افتراش أمهات وأولادهن بعض الأرصفة، والتسول من خلال بيع مناديل أو بعض مأكولات الأطفال، أن التقت الطفل رامي (13 عاماً) الذي يبيع الحلوى على عربة أشبه بحقيبة، بجانب مقهى وطن بمنطقة أكسراي التركي. فيده المبتورة ألم آخر، يضاف إلى تشرده وتركه المدرسة وبحثه عن وطن وسبل عيش تقيه وأهله ذل السؤال.
رامي الذي يداوي وجعه وتركه بلده والمدرسة بالصمت، أخذ 4 ليرات تركية، لأن عبوة الحلوى السورية التي يبيعها بست ليرات، قال "أنا ماعم باشحد.. والحمد لله الأمور بخير".
عضو في الائتلاف السوري المعارض، رجا بإلحاح عدم ذكر اسمه، قال: لم نناقش أي مرة حالات عمل الأطفال بدول جوار سورية، وقد تدخل الائتلاف مراراً، عبر الطرق الرسمية، للاحتجاج على بعض الإساءات بحق الأطفال السوريين، خاصة في لبنان.
وأضاف عضو الهيئة السياسية، لـ"العربي الجديد": تكلفة الاجتماع الواحد للهيئة السياسية تقارب 125 ألف دولار، بين حجوزات فندقية وثمن بطاقات الطائرة ومصاريف أخرى، في حين أن الاجتماع الأخير الذي أقيم في مبنى الائتلاف، لم تزد تكلفته عن بضعة آلاف من الدولارات. فلو اختصرت تلك المصاريف، لاكتفت الأسر المشردة، ومنعنا الأطفال من التسول
والعمل في الشوارع، وأعدناهم إلى مدارسهم.
وهو الرأي ذاته لعضو الائتلاف، أحمد عوض، الذي قارن، خلال حديثه لـ"العربي الجديد"، بين حالته كلاجئ من الجولان السوري المحتل عام 1967 وبين حال اللاجئين السوريين اليوم.
وقال، متذكراً، حينما سرق النظام السوري وقتها المعونات التي تأتي من الدول الشرقية، وحرم النازحين حتى من الخيم، دفعنا إلى النوم في مبان غير مكتملة في المزة وبرزة والزاهرة، وعملنا في الشوارع حمالين وماسحي أحذية.
ويضيف عوض: اطلعت على واقع عمل الأطفال في دول جوار سورية، وعلمت أن ترخيص العمل في الأردن يقارب 400 دينار، لكن المآسي تتكرر أمام عجز وتخاذل الجميع. وبالنتيجة يبتعد هؤلاء الأطفال عن المدارس ويكبرون وفق فلسفة وأبجدية الشوارع، وستدفع سورية ثمن هذا التشرد من مستقبلها.
وتسول الأطفال السوريين لا يقتصر على البلدان المضيفة، بل تشهد العاصمة دمشق، بحسب "وفاء"، حالات أكثر أسى لظلم النظام، فماسحو الأحذية الأطفال وتسولهم في العاصمة السورية، يؤثر على نموهم العقلي والجسدي، ويصل إلى درجة استغلالهم في جمع القمامة.
وتنسحب الحالة على المخيمات داخل تركيا، وإن بطرق أقل أذى، فأحمد خيرو، من مخيم نذب، يقول لـ"العربي الجديد": تنتشر عمالة الأطفال داخل المخيم، سواء عبر بيع الألبسة المستعملة أو بيع مأكولات الأطفال.
وحرس المخيم لا يمانعون في إدخال صناديق البسكوت والحلوى أو البالة، لأن بعض الأسر الفقيرة أو من فقدت رب أسرتها، تتغلب على قلة المعونات بعمل أطفالها.
ويضيف خيرو: تبلغ المعونة 80 ليرة للشخص الواحد "معونة الهلال الأحمر والآفاد"، لكنها لا تكفي طيلة الشهر، ما يدفع ببعض الأسر إلى تشغيل أولادها بالبيع داخل المخيم، أو لدفعهم إلى العمل الزراعي خارجه.
والكلام ذاته كرره على مسامعنا المدرب في تجمع مخيمات أطمة على الحدود السورية التركية، عبدالرزاق محمد، حيث قال "الأطفال داخل المخيم يبيعون الدخان والعلكة، وبعضهم يتسول نتيجة الفقر وكثرة أفراد الأسرة التي فقدت عائليها في الحرب".
ويضيف محمد: يعمل بعض الأطفال خارج المخيمات في محال الحلاقة أو في محال الخضار والمطاعم، بأجر لا يزيد على 500 ليرة (نحو 2 دولار) في الأسبوع، ونحاول إقامة ورشات تأهيلية وتعليمية، حتى لمن يعمل خارج المخيمات، لأن الأطفال السوريين خسروا تعليمهم، وبدأت ملامح العنف تظهر على كثيرين.
وتطاول ظاهرة عمالة الأطفال، الداخل السوري المحرر، وإن بنسب قليلة، كما قال عبدالرحيم
فاضل، لأن القصف المستمر حد من أعداد الأسر في الداخل السوري، بسبب قلة فرص العمل.
ويضيف فاضل لـ"العربي الجديد": يعمل الأطفال في مهن زراعية أو في ورش تصليح السيارات، لكن العمل الأكثر انتشاراً في مناطق سرمدا وريف إدلب الشرقي، هي بيع المازوت والبنزين المكرر يدوياً.
ويختم العامل في الشؤون الإغاثية، فاضل: الأخطر فيما يصيب الأطفال السوريين، هو زجهم في العمل العسكري، الذي لم يقتصر على تجنيد تنظيم الدولة "داعش" للأطفال الذين يزيدون عن 400 طفل دون سن الـ18، بحسب الوثائق، بل واستغلالهم من بعض الفصائل المقاتلة، وإغراؤهم بحمل السلاح وبعض المال، ما يهدد الجيل السوري بعواقب وإجرام.
ويذكر أن استغلال الأطفال في الأعمال الشاقة لم يأت بعد الثورة السورية فقط، فقد قدرت إحصائيات وزارة الشؤون الاجتماعية عدد الأطفال الذين يعملون وفق شروط غير صحية وقاسية وغير إنسانية، مطلع عام 2011، بحوالي 600 ألف طفل.
اقرأ أيضاً:
انتعاش أسواق بيع أثاث المنازل المسروقة في سورية