تشكّل تجربة ترينو كروز (1960) علامة في الشعر الإسبانيّ ولا سيما الذي يُكتب الآن في مضيق جبل طارق. هنا، تحديداً، تكمن أهميّته، فهو شاعر مولودٌ في مجتمع تاريخيّ متعدّد الثقافات واللغات (الإنكليزيَّة والإسبانيَّة والفرنسيَّة والعربيَّة).
ضمن هذا السياق، من الطبيعيّ أن يؤثِّرَ هذا التعدُّد المتداخل والمتجذّر في شخصيَّة الشاعر وفي موضوعاته الشعريَّة، لتبرز بذلك الملامح الأولى لشعريَّة ترينو: شخصيَّة مفردة بصيغة متعدّدة تعيد تشكيل سلسلة من الأسس المرتبطة بالمشهد الماديّ والبشريّ والتاريخيّ لمضيق جبل طارق (المسافرون خلسة، البحر، الطيور، والمرايا) بطابعيها التجريديّ والعاطفيّ، علاوة على قلقه واهتمامه بقضايا الحركة والتدفُّق بين الأماكن المنفصلة جغرافيّاً أو سياسيّاً، متجاوزاً من خلال موقعه الشعريّ الذاتيّ الحدود بين جبل طارق، جنوبي إسبانيا وشمالي المغرب.
إنَّ هذا التجاوز الشعريّ العابر للحدود، سواء كانت جغرافيَّة أم سياسيَّة، يقتضي من الشاعر لغة نافذة تتغلَّب على الأشياء القائمة وتكون، في الوقت نفسه، محرِّك تحقيق الأشياء. هكذا تكتسب اللغة الشعريَّة مسؤوليَّة كبيرة، فهي مصدر المعرفة والإدانة والاحتفاء في أثناء التواصل، علاوة على كونها تعبيراً عن العلاقات الحميمة المطلقة في أثناء تواصل الشاعر مع الكون. إنَّها أداة لاستكشاف طبيعة الأشياء ومعالجتها.
لا غرو، إذاً، أن يتعامل الشاعر مع اللغة ككائن حيٍّ متغيّر في مكان هو كذلك متغيّر ومتحوّل، وهذا بدوره ما يعكس شبكة العلاقات الداخليَّة المعقَّدة داخل عالمه الشعريّ وخارجه، أي في "المضيق"، حيث التعدُّد هو صفة الأشياء كلّها، ومن ثمَّ ضرورة خلق فضاء مشترك، بالمعنى الماديّ، يتجاوز أيَّ منطقة جغرافيَّة، يتمكّن فيه الشاعر من الاقتراب من الجميع ليتعرَّف أولاً نفسَه، ومن ثمَّ الآخرَ المختلف.
ترينو كروز هو واحدٌ من أولئك الشعراء الذين يتبنّون المعنى الأكثر نبلاً لأن تكون متعدّداً: كسر العزلة الثقافيَّة وإقامة حوار مثمر مع المساحات المجاورة، مع الذاكرة المتعدِّدة التي أُطفئت من حولنا؛ حوار مع الأسلاف، مع الصور الرمزيَّة، مع هواجسنا وأشباحنا من دون الشعور بالخوف لمجرَّد معرفة الآخر، الذي هو، في نهاية المطاف، نحن.