[نعرف عبّاس كيارستامي (طهران، 1940) مخرجاً سينمائياً وكاتب سيناريو وقّع أكثر من أربعين فيلماً، من بينها "طعم الكرز" الذي نال عليه السعفة الذهبية في مهرجان "كان" عام 1997، و"ستحملنا الريح" الذي حاز "جائزة موسترا" في مهرجان البندقية عام 1999. كما نعرفه مصوّراً فوتوغرافياً عُرضت أعماله في أهم محافل الفن الدولية. لكنّ قليلين هم الذين يعلمون أن كيارستامي بدأ مساره الإبداعي بالشعر ولم يتوقّف أبداً عن كتابته.
هذا ما يتجلّى في أعماله الشعرية الكاملة التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً في مجلدٍ واحد عن "po&psy" في باريس، مرفقةً بالنصوص الأصلية. مجلدٌ يتضمن أكثر من 800 قصيدة قصيرة نادراً ما تتجاوز كل واحدة منها أربعة أبيات.
نصوصٌ مشدودة على ذاتها إلى أقصى حد، يعتمد كيارستامي فيها مبدأ التصفية والاقتصاد في الكلمات كأفضل وسيلة للتعبير والكشف، فيبتعد في ذلك عن السرد لابتكار شكلٍ كتابي فريد يدخل في حالة حوار مثير مع العالم المرئي.
لا يفوتنا طبعاً أن هذه القصائد تستحضر في مضمونها الشعر الفارسي التقليدي، وفي شكلها فن المنمنمات. لكن هذا الاستحضار المزدوج لا يتبدّى إلا بشكلٍ محوَّل وحديث. وكذلك الأمر بالنسبة إلى اقتراب نصوص كيارستامي من شعر الـ"هايكو" الذي يتقاسم معه فن الالتقاط الخاطف للصورة، أو فن التثبيت الفوري للّحظة الشعرية، تماماً كما لو أننا أمام عدسة مصوّر فوتوغرافي. هنا نماذج من هذه النصوص.]
أ. ج.
هذا المساء أنا على موعد
مع القمر
مع البدر
عند الساعة السابعة
إلا سبع دقائق
*
بين أشلاء الغيوم السوداء
قرّر القمر
أن يظهر
*
سرّي
بحتُ به للقمر
مع بزوغ الشمس
سرّي انتشر
*
من شقّ الباب
تدخل ريح الشمال
وضوء القمر
*
قرْصُ القمر
كان يتخبّط
في النهر
في النهاية حمله
النهر معه إلى البحر
*
على ضوء القمر
كانت الكأس فارغة
والقلب شاغراً
*
بيني وبين القمر
ثمّة حديثٌ
لا القمر يسمعه
ولا أنا
*
أرقٌ
في ليلٍ مُقْمِر
حديثٌ عبثي
مع نفسي
حتى الصباح
*
الغربان
عند الثلجة الأولى
انطلقت في اللهو
مُلفعّةً بالسواد
*
أبداً
لم تكن الحياة بهذه القسوة
في الأحياء الفقيرة
كما تحت الثلج
*
أبداً
لم تكن الأحياء الفقيرة بهذا الجمال
كما تحت الثلج
*
في هذه الحياة التي ليست قصيرة جداً
ولا طويلة جداً، والتي هي حياتي
تساقط الثلج لعشر سنوات
*
توقف الثلج
بدأ المطر
توقف المطر
غرّد العصفور
*
في البداية هطل المطر
ثم الثلج
عند المساء توقف الثلج
وحلّ الليل في الوقت المناسب
*
كانت الشجرة الشابة
تكبر وترتفع
نحو السماء
غير عابئة بالفأس
*
نارٌ ترتفع
في الغابة
أشجار الحور
واقفة تتفرّج
*
أزهار الحقول
أحدٌ لم يرها
أحدٌ لم يشمّها
أحدٌ لم يقطفها
أحدٌ لم يبعها
أحدٌ لم يشترِها
*
عند حلول الليل
لم يشعل الضوء
لانتظار الفجر
*
فلنصغِ
لحديث اثنتين من المحار
إن كان ثمة حديث
*
السائرون في نومهم
خلال لقائهم الليلي
عمّا يتكلمون؟
*
إن كان ثمة نبعٌ
في أعماق المحيط
كيف سيكون؟
*
في أرضٍ مكسوّة بالألغام
ثمّة مئات الأشجار
المكسوّة بالبراعم
*
العشب الجديد
لا يتعرّف إلى
الأشجار المعمّرة
*
في المسلخ
لسع
دبّور
يوماً
يد الجزّار
*
بعتُ اليوم
بستاني
هل تعرف الأشجار ذلك؟
*
لم أكن سوى المشاهد
لتفاحة
سقطت من الغصن
*
أنا ممدّدٌ
على رقعة أرضٍ مسطّحة
لا يهمّني إن كانت الأرض مدوّرة أم لا
*
في حديثه مع كبار أدباء المدينة
هذا الطفل
لا يحترم
القواعد
*
سأل الطفل:
لماذا تحب الأسماك
الاستحمام
إلى هذا الحد؟
*
أُوَجِّه
للشجرة
تقديري
تسقط منها ورقةٌ
ربما كجواب
*
أربع أشجار
من أربعة أنواع
تمنح ظلالاً من نوعٍ واحد
لأربعة مسافرين متعبين
*
الشبّان
على الجبهة
العجائز
يرتجفون
في الحقل
*
الجندي
الذي كان يضع إصبعه في أذنه
عند طلقة المدفع
فقد
إصبعه
وأذنه وعينه
بطرفة عين
*
في مكتب الأحوال الشخصية
سألوا عن كل شيء
إلا عن حالي
*
يقفز الجندب ويحطّ
يحطّ ويقفز
إلى جهة معلومة منه فقط
*
تفاحةٌ حمراء
تدور ألف مرة
في الهواء
وتقع
في يد طفلٍ شقي
*
عند هبوب الريح المقبل
دور أي ورقة
في الوقوع؟
*
امرأةٌ حامل
تبكي بصمت
في سرير رجلٍ نائم
*
رافقتُ
القمر
إلى قلب غيمة معتمة
شربتُ النبيذ ونمتُ
*
القمر يشحب
في بياض الفجر
النجمة تختفي
عند صياح الديك
*
انعكاس قمر الخريف الأول
على النافذة
جعل زجاجها يرتجف
*
عند أول هجوم من ريح الخريف
فوجٌ من الأوراق
لجأ إلى غرفتي
*
ساقية تركض
في صحراءٍ بلا عشب
بحثاً
عن عطشان
*
أخذتُ
ثلاث بيضات من عصفور
على قمة جبل "قاف"
كم كان صعباً
طريق العودة!
*
على لساني
الطعم المرير للصبر
أي حلاوة
ستمحوه؟
(ترجمة عن الفرنسية: أنطوان جوكي)