لم تصدّق الطفلة عينيها. دقّقت جيداً حتى تتأكّد مما تراه. كانت رزمة الليرات كبيرة. نقدها إياها الشاب في السيارة الرياضية الحديثة الطراز وصار يتفرّج على تعابير وجهها. لم يأخذ علبة المحارم التي تبيعها وقد نسيت أن تعطيه إياها في معمعة فرحتها بالنقود التي لم تتوقعها.
رفعت الطفلة التي لا يزيد سنّها عن سبع سنوات ذراعها قابضةَ بكفّها على النقود إلى الأعلى، كمن فاز بجائزة. صرخت فرحة بأعلى صوتها وأطلقت ضحكة واسعة، قبل أن تركض ناحية أطفال آخرين يقومون بنفس مهمتها. نسيت كيس المحارم كلّه على الأرض.
الطفلة ودودة. أهل المنطقة، جيران المسجد الذي تبيع بضاعتها بالقرب منه، حفظوا ضحكتها وأحبوها. بالعادة يتفرّجون عليها تبتسم، لكنهم اليوم، وفي هذه اللحظة، يسمعون صوت صراخها من الفرح. وقعُ المفاجأة غير المتوقعة كان قويّاً عليها. تبتسم الطفلة بالعادة لأن الابتسامة جزء من وجهها وشخصيتها. الابتسامة كعينيها وأنفها وشفتيها واسمها. من دونها لا يعود هذا وجهها. تصير طفلة أخرى ولا يعرفها الأطفال الآخرون ولا أهالي المنطقة.
لا أحد يعلم متى وصلت مع مجموعة الأطفال إلى منطقة عين المريسة. الأكيد أن هذا الأمر حدث بعد الحرب السورية. والمجموعة هنا هم أطفال من سنها، أكبر أو أصغر قليلاً، حضروا جميعاً إلى منطقة عين المريسة وصاروا جيران بحر بيروت. يبيعون المحارم والورود عند إشارة السير بالقرب من الكورنيش.
والبحر يحب الناس، فقراء كانوا أم أغنياء، ويستوعبهم برحابة موجه. يحبّهم سواء أكانوا من أهل المدينة أو من ضيوفها. لا يسألهم عن أصل وفصل وهويات ومناطق وطوائف وجنسيات. هذه التفاصيل لا تهمّه. البحر ليس مثل الناس. ليس مثل الجالسين في سياراتهم المكيّفة ينزعجون كلّما طرق طفل على زجاج النافذة. البحر لا يخاف على نوافذه من أن توسّخها أنامل طفل صغير. البحر ليس مثل الناس. فكائناته لا تنام جائعة. البحر ليس مثل الناس. لم نسمع يوماً أنه لفظ سمكة أو عروسة أو نجمة من نجماته.
كان يمكن للطفلة أن تحافظ على ابتسامتها وتطلق ضحكتها الجميلة هذه في مكان آخر. في صفّ هو مكانها الطبيعي بين تلاميذ وتلميذات. رفاق لها فرّقتهم الحرب بعدما ضاعت المدرسة ودفعت بكل واحد منهم إلى ناحية مختلفة.
لكن الطفلة نسيت في هذه اللحظة رفاقها ومريولها وربطات شعرها ولوح الصف الأخضر والطباشير البيضاء، وضحكت ملء قلبها فرحة بالليرات القليلة. ضحكت لأنها تعلم جيداً حاجتها إلى هذه النقود.
لكنها بكل الأحوال ليست الضحكة التي تستحقّها.