في بلدان كثيرة، لا سيّما بلداننا العربية، يسهل الوصول إلى الدواء. ويميل كبار السنّ بمعظمهم إلى تناول أنواع عدّة في حين أنّ الجهات الصحيّة والطبيّة لا تتنبّه لمخاطر "تعدّد الأدوية".
بكلّ ثقة، يصف الواحد منّا دواءً أو مكمّلاً غذائياً لجاره أو قريبه أو صديقه أو حتى لغريب يلتقي به في جلسة ما. ويشيد بمزايا الدواء أو المكمّل الغذائيّ اللذَين اختبرهما، مضيفاً "اسأل مجرّب ولا تسأل حكيم!". تُضاف تلك الوصفات "المضمونة" إلى أدوية ومكمّلات غذائيّة أخرى يتناولها متلقّي النصيحة في الأساس. وفي ثقافتنا، من غير الضروريّ مراجعة الطبيب كلّما قرّرنا تناول دواء إضافيّ. نحن، جميعنا، أطبّاء. كذلك فإنّ المكمّلات الغذائيّة "طبيعيّة" وفي حال لم تأتِ بفائدة، فإنّها لن تضرّ. في ثقافتنا كذلك، كلّما كبر حجم كيس أو حقيبة الأدوية يعني ذلك أنّ المرء حريص على صحّته.
للأسف، ما نخبره في هذا السياق، خصوصاً كبار السنّ منّا، ليس أمراً ذا فائدة لا بل ينطوي على أضرار صحيّة. وهذه الحالة أو المشكلة يُطلق عليها مصطلح "تعدّد الأدوية". صحيح، الأمر حالة تستدعي التوقّف عندها، وهذا ما قامت به الدكتورة ديمة القطو من كليّة الصيدلة في جامعة إيلينوي - شيكاغو بالولايات المتحدة الأميركيّة، عندما أعدّت دراسات حول تعدّد الأدوية حذّرت إثرها من تبعات اللجوء إلى ذلك.
عن دراساتها تلك، تقول القطو في حديث إلى "العربي الجديد" إنّه "خلال الأعوام العشرة الأخيرة، أعددنا دراسات عدّة تركّز على العبء الذي يتسبّب فيه تعدّد الأدوية (أي استخدام أدوية عدّة أو مكمّلات غذائيّة) على الصحّة، خصوصاً في سنّ متقدّمة عندما يبدأ الناس باللجوء أكثر فأكثر إلى أدوية لمعالجة حالات صحيّة أو الوقاية منها من أجل صحّة أفضل. خلص البحث إلى أنّ ثلث الأشخاص المتقدّمين في السنّ يتناولون أكثر من خمسة أدوية أو مكمّلات غذائيّة في الوقت نفسه، وقد تزايد هذا المنحى خلال العقد الأخير". تضيف القطو أنّه "على الرغم من الإثباتات المحدودة التي تقول بالفوائد السريريّة للمكمّلات الغذائيّة، فإنّ عدداً أكبر من الأشخاص المتقدّمين في السنّ يلجأون إليها، مع تسجيل ارتفاع بنسبة 50 في المائة في ما يتعلّق باستخدام مكمّلات غذائيّة عدّة منذ عام 2006. في بحثنا، لاحظنا أنّ الارتفاع الأكبر سُجّل في زيت السمك أوميغا - 3 الذي يُعَد مكمّلاً غذائياً مع فوائد محدودة للقلب والشرايين".
القطو: "نحن جميعاً في حاجة إلى الحذر والتنبّه من المخاطر" |
وتتابع القطو: "ولعلّ الأكثر أهميّة هو أنّ النتائج التي خلصنا إليها تشير إلى أنّ البالغين الأكبر سنّاً يتناولون أكثر فأكثر تراكيب دوائيّة تتفاعل بين بعضها البعض، ما يعني أنّ استخدام نوعَين أو أكثر من الأدوية أو المكمّلات الغذائيّة في وقت واحد من شأنه أن يزيد مخاطر التفاعلات الدوائيّة. وأكثر من نصف تلك التفاعلات تتورّط فيها مكمّلات غذائيّة. وهذا أمر مهمّ، إذا أخذنا في عين الاعتبار أنّ لا فوائد مثبتة لتلك المكمّلات الغذائيّة وأنّه ثمّة مخاطر متزايدة لها عند استخدامها مع أدوية عدّة".
التوعية ضرورة
والدكتورة ديمة القطو فلسطينيّة - أميركيّة ولدت في مدينة طولكرم بالضفة الغربيّة المحتلة قبل أن تنتقل في عام 1980 إلى الولايات المتحدة الأميركيّة. حينها كانت لا تزال طفلة، أمّا اليوم، فهي في أوائل أربعينيّاتها، وتحمل شهادة دكتوراه في الصيدلة من جامعة إيلينوي في شيكاغو، وشهادة ماجستير في الصحّة العامة من كلية جون هوبكنز بلومبرغ للصحّة العامة في بالتيمور (ولاية ميريلاند)، وكذلك شهادة دكتوراه في الصحّة العامة من كليّة الصحّة العامة في جامعة إيلينوي. مارست القطو الصيدلة لسنوات عدّة، وهي تشغل حالياً منصب أستاذ مساعد في كلية الصيدلة في جامعة إيلينوي، حيث أعدّت أبحاثاً تناولت الوصول إلى الدواء واستخدامه الآمن في الولايات المتحدة وكذلك في الخارج، لا سيّما في الشرق الأوسط.
كيف في الإمكان دفع الناس، لا سيّما في البلدان العربيّة، إلى تغيير سلوكياتهم المتعلّقة بالأدوية؟ ومن المسؤول... هل هي العائلة أم الأطباء أم الصيادلة أم غيرهم؟ تجيب القطو أنّ "الناس، بمن فيهم الصيادلة والأطباء، في حاجة إلى الإدراك أنّه في حين تتمتّع أدوية معيّنة بفوائد علاجيّة، على سبيل المثال الأدوية التي تعالج ارتفاع ضغط الدم والأدوية الخاصة بداء السكري، فإنّها ترتبط بمخاطر منها التفاعلات الدوائيّة. وبعض تلك المخاطر، من المحتمل أن يكون مميتاً". تضيف: "بالتالي، نحن جميعاً في حاجة إلى الحذر والتنبّه من المخاطر، بما في ذلك الاكتئاب والنزيف ومشكلات في القلب، المرتبطة بتعدّد الأدوية. ويتوجّب على الصيادلة والأطباء سؤال مرضاهم عن كلّ الأدوية التي يتناولونها وتثقيفهم حول المخاطر والأعراض الجانبيّة المرتبطة باستخدامها".
وتشدّد القطو على أنّ "تحسين التوعية حول نقص الفوائد المثبتة للمكمّلات الغذائيّة هو جدّ مهمّ، نظراً إلى أنّ تلك المكمّلات الغذائيّة تُباع في الصيدليّات ويروّج لها الأصدقاء والأهل على أنّها مفيدة. ثمّة فكرة خاطئة عن أنّ المكمّلات الغذائيّة طبيعيّة وبالتالي آمنة، وهو أمر غير صحيح. مع ذلك، لا تُستخدم وحدها، وغالباً مع أدوية الوصفات الطبيّة. وقد بيّن بحثنا أنّ بعض المكمّلات الغذائيّة المستخدمة على نطاق واسع مرتبطة بتفاعلات دوائيّة خطرة، بما في ذلك السكتة الدماغيّة النزفيّة ونزيف الجهاز الهضميّ".
وفي حين أنّ أطبّاءً كثيرين لا يسألون مرضاهم أو مراجعيهم عن علاجات أخرى يخضعون لها، فإنّ قلّة من الناس تفيد أطبّاءها علماً بأسماء أدوية أخرى تتناولها. ونسأل: هل يمكن لطبّ العائلة أن يساعد في هذا المجال، إذا اتّفقنا أنّ طبيب العائلة هو مايسترو بطريقة أو بأخرى؟ فتبدو القطو جازمة وهي تقول: "بالتأكيد! لا بدّ لطبيب العائلة من أن يبادر إلى دفع المرضى في اتجاه فهم أفضل لسلوكيات تناول الأدوية، بما في ذلك تناولهم المكمّلات الغذائيّة، وتثقيفهم حول مخاطر تلك الأدوية عند تناولها لوحدها أو مع أدوية أخرى".
اكتئاب وانتحار
في بحثها الأخير الذي نُشرت نتائجه في مجلة الجمعيّة الطبيّة الأميركيّة "غاما"، في 12 يونيو/ حزيران الماضي، ركّزت القطو بحسب ما تقول لـ"العربي الجديد" على "عبء تعدّد الأدوية على الاكتئاب في الولايات المتحدة. وقد وجدنا أنّ وصفات الأدوية المتعددة ترتبط بحالات اكتئاب أو باحتمالات الإقدام على الانتحار بصورة واسعة، وتتزايد بين البالغين في الولايات المتحدة. وهذا اكتشاف مهمّ، إذ إنّ الاستخدام المتزامن لتلك الأدوية - العاديّة - ارتبط بزيادة احتمالات الاكتئاب".
مخاطر التفاعلات الدوائيّة كثيرة (كريستوف أرشامبو/ فرانس برس) |
ووجدت القطو أنّ الاكتئاب وأعراض الانتحار هما من التأثيرات الجانبيّة لأكثر من 200 دواء في الولايات المتحدة، منها مثبّطات مضخّة البروتون التي تعالج الارتجاع المعديّ المريئيّ وحاصرات مستقبلات بيتا التي تعالج ارتفاع ضغط الدم وأدوية منع الحمل ومضادات الاختلاج وغيرها من الأدوية التي يكثر استهلاكها. يُذكر أنّ بعضاً من تلك الأدوية تُباع في الصيدليّات من دون وصفة طبيّة. وغداة نشر نتائج البحث، صرّحت القطو لصحيفة "نيويورك تايمز" الأميركيّة بأنّ مرضى كثيرين يتناولون أكثر من دواء واحد يكون الاكتئاب من تأثيراتها الجانبيّة، موضحة أنّ الدراسة توصّلت إلى أنّ مخاطر الإصابة بالاكتئاب تتزايد مع كلّ دواء إضافيّ من هذا النوع يتناوله الشخص في الوقت نفسه. وأوضحت أنّه كان مفاجئاً ومقلقاً اكتشاف هذا العدد الكبير من الأدوية التي يأتي الاكتئاب وأعراض الانتحار من تأثيراتها الجانبيّة. وتُقرّ بأنّ أسئلة كثيرة ما زالت في حاجة إلى إجابات في هذا السياق.
حياة اجتماعية في خطر
في الوقت الحالي، تعمل القطو على أكثر من دراسة "من بينها تأثير تعدّد الأدوية على الحياة الاجتماعيّة ومعدّل الوفيات. وتحديداً، نركّز على أدوية عدّة مرتبطة بتأثيرات سلبيّة محدّدة، من قبيل العدوانيّة والسلوكيّات العنيفة وفقدان الذاكرة التي تؤدّي إلى مشكلات اجتماعيّة (عنف أسريّ على سبيل المثال) وصحيّة (القصور الإدراكيّ كذلك على سبيل المثال) والموت المبكر". تضيف: "سبق أن عملت في فلسطين والأردن مع التركيز على أسر اللاجئين، خصوصاً النساء. وعملي في الولايات المتحدة يتخطّى الحدود ليطاول بلدانا عدّة، منها العربيّة. وقد اكتشفت أنّ الأدوية يؤمَل منها أن تكون "إصلاحات سريعة"، بينما يُصار إلى تجاهل المخاطر المرتبطة باستخدامها أو عدم الاعتراف بها. وتعدّد الأدوية أمر منتشر على نطاق واسع، بما في ذلك المكمّلات الغذائيّة، ولا بدّ من زيادة التوعية في العالم العربيّ، لا سيّما بين اللاجئين، حول المخاطر المرتبطة بالأدوية وبالمكمّلات الغذائيّة وبمزجها".
إلى جانب تعدّد الأدوية أو "الإفراط في استخدام" الأدوية، تتحدّث القطو عن "برنامج أبحاث وضعته يركّز على الوصول إلى الدواء. ففي حين أنّ أشخاصاً كثيرين قد يستخدمون الأدوية في مزيج غير آمن، لاحظت أنّ كثيرين لا يستطيعون الوصول إلى الدواء، وبالتالي لا يستخدمون الأدوية الأساسيّة التي تُعَدّ حاسمة في علاج مشكلات صحيّة حادة أو مزمنة، لا سيّما داء السكري وارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب والربو وحالات أخرى، بين الأطفال والبالغين والمتقدّمين في السنّ". وتؤكّد أنّ "العوائق أمام الوصول إلى الدواء تُسجَّل خصوصاً لدى ذوي الدخل المنخفض والمهاجرين الذين يفتقرون إلى التأمين الصحي ولدى اللاجئين في الشرق الأوسط".