تقلبات برنارد لويس فكرية أم سياسية؟
في كتاباته الأخيرة عن المنطقة العربية، بعد ثورات الربيع العربي، أخذ المؤرخ الأميركي - البريطاني والأستاذ السابق في جامعة برينستون، برنارد لويس، يميل إلى فكرة أن "الاستبداد المستحكم بالشرق الأوسط اليوم ليس جزءاً من التقاليد العربية والإسلامية، بل تم استيراده من أوروبا". وفي التفصيل، يشير لويس إلى أن "ما نشهده اليوم في بلدان عربية وإسلامية عديدة ما هو إلا تطبيق للنموذج الغربي الذي تم استيراده من أوروبا، في فترة ما قبل القرن التاسع عشر، حين كان الإسلام يستشعر في داخله أنه أدنى من الغرب الآخذ في التقدم، فانكب يستوحي المبادئ منه".
في المبدأ، يعتبر هذا الكلام مهماً، خصوصاً أنه يصدر عن أحد أهم المرجعيات في الغرب عن تاريخ العرب والإسلام. فبرنارد لويس وضع في حياته التي امتدت نحو قرن (احتفل في يونيو/حزيران الماضي بعيد ميلاده الـ 98) أكثر من ثلاثين مؤلفاً، فضلاً عن عشرات الدراسات والمقالات في موضوع الدولة والمجتمع في الشرق الأوسط.
ومن يعرف تاريخ الرجل لا بد أن يدرك أنه سجل، في كتاباته الأخيرة، تطوراً مهماً في تفكيره عن سوسيولوجيا المنطقة العربية، منذ كتابه الأول عنها في 1947. فمنذ ذلك الوقت، غيَّر لويس قناعاته أكثر من مرة، جاعلاً من الشرق الأوسط حقل تجارب كبير لنظريات سياسية وضعها، أو ساهم في وضعها. وما يجعل لقوله أهمية كبرى أن أفكاره كانت، على الدوام، محل اهتمام الدوائر السياسية والعسكرية الغربية، لا بل شكلت، في أحيان كثيرة، مرشداً لهذه السياسات التي تركت أثاراً مهمة في تاريخ المنطقة والعالم.
ففي مطلع الخمسينيات، بدأ لويس، مع آخرين، ترويج فكرة إسقاط نظريات التحديث (Modernization Theories) التي أخذ يسطع نجمها في المؤسسات الأكاديمية الغربية على المنطقة العربية. في تلك الفترة، ومع بدء أفول دول أوروبا الاستعمارية التي كانت تسعى إلى الحفاظ على الوضع القائم خدمة لمصالحها، رأى لويس وصحبه ضرورة أن تتدخل القوة الإمبراطورية الصاعدة (أميركا) إلى ضبط إيقاع التغيير الذي بدأ يأخذ صفة الحتمية في المنطقة العربية، بما يحول دون خروجه عن السيطرة.
في تلك المرحلة، تنبه لويس إلى أن بنية المجتمعات التقليدية العربية تواجه انهياراً حتمياً في وجه مد حداثي، أدواته نظم الاتصال، التكنولوجيا والتعليم. وفي إطار فهمه التطورات القادمة، أسقط لويس (الذي يعترف، اليوم، أن الاستبداد العربي مستورد من الغرب) عمداً الديمقراطية من كتاباته، على أساس أن المرحلة الانتقالية تتطلب قيادات قوية قادرة على ضبط وتوجيه آليات التغيير من الأعلى، في بيئات ثقافية شديدة العداء لأي أفكار واردة من الخارج (نموذج أتاتورك).
لاقى هذا التحليل إعجاب إدارتي الرئيسين، هاري ترومان ودوايت إيزنهاور، فأخذتا به، ودعمتا الانقلابات العسكرية في أنحاء مختلفة من العالمين العربي والإسلامي. لكن، انقلب السحر على الساحر، عندما بدأت القيادات العربية الجديدة تأخذ منحىً مستقلاً عن المصالح الأميركية، وصولاً إلى الاصطدام بها، مستفيدة من ظروف الصراع الغربي-السوفيتي. ومع اتضاح فشل هذه الأفكار، بدأ لويس يميل، وإن بتحفظ، نحو فكرة الاعتماد على الإسلام المحافظ لمحاصرة القومية العربية، ومن ورائها الشيوعية، إلى أن جاءت صدمة سقوط الشاه في إيران.
في هذه المرحلة، راح لويس يتحدث عن المقاومة المتأصلة في الثقافة العربية للأفكار الغربية الدخيلة، وعن عدم نضوج مجتمعات المنطقة، بحكم عوامل حضارية وثقافية ودينية، للتعامل مع الديمقراطية. ومن هذه الفكرة، استقى صمويل هنتغتون معظم استنتاجاته عن مستنقع "العفن والركود" الذي تجسده المنطقة العربية، في كتابه الشهير "الموجة الثالثة".
وفيه، تناول هنتغتون عملية التحول الديمقراطي في نحو 35 بلداً في آسيا وأميركا اللاتينية في الربع الأخير من القرن العشرين، على اعتبار أن الموجة الأولى امتدت نحو قرن بين 1828-1926، فيما استغرقت الثانية عقدين بين عامي 1943-1964، وكان مسرحها الرئيس أوروبا الغربية. بعد أن درس وتفحص وحدد شروط وظروف نجاح هذه الموجات، خلص صاحب الكتاب إلى نتيجةٍ، سبقه إليها لويس، وغدت مسلمة في الأدبيات السياسية الغربية، هي أن المنطقة العربية تتميز بخصائص فريدة، تجعلها عصية على أي نوع من أنواع التغيير.
ظلت هذه الأفكار ترددها الأكاديميا الغربية وراء لويس عقوداً، حيث ساق رموزها الأدلة والبراهين على صحة مزاعمها، بمن فيهم صاحب نظرية "نهاية التاريخ"، فرانسيس فوكوياما الذي قال بالانتصار النهائي للرأسمالية والديمقراطية الغربية، ولكنه استثنى العالم العربي – الإسلامي، على اعتبار أن لدى شعوبه قيم ثقافية ودينية ومجتمعية، لا تسهل عملية التحول، ما يجعلهم يقبعون باستمرار خارج السياق التاريخي المعاصر.
تغيرت هذه النظرة عند لويس بعض الشيء، بعد أحداث أيلول/سبتمبر 2001، مع فرق الدعوة إلى فرض القيم الغربية على المجتمعات العربية، ولو بقوة السلاح. في كتاباته الأخيرة، عاد لويس إلى ترويج فكرة "إن التغيير داخل المجتمعات الإسلامية يجب أن ينطلق من الداخل، أي من الإسلام ذاته، لكن على الحكومات الغربية أن تكف عن تقديم العون لقوى الاستبداد في تلك المنطقة"، وختم بالقول "علينا أن نساعدهم على التحرر، وإلا دمرونا". تقلبات برنارد لويس يمكن فهمها في سياق تطور المجتمعات العربية وديناميات التغيير في المواقف والسياسات الدولية، لكنها تصبح فجةً حقاً، إذا جاءت في إطار التوظيف السياسي والإعلامي للفضاء الأكاديمي.