09 نوفمبر 2024
تونس... أضواء كاشفة على جانب مظلم
يمثل انطلاق عمل هيئة الحقيقة والكرامة في تونس خبراً طيباً، في غمرة الأخبار المأساوية التي يزخر بها الواقع والفضاء الإعلامي العربيان. تتولى الهيئة التونسية ما يصطلح على تسميتها العدالة الانتقالية، فلا تقوم بأعمال القضاء، وإنْ كانت أعمالها لا تعدم جانباً قضائياً، وذلك مع الاستماع لشكايات الضحايا، وتحديد صفات المتهمين ومراكز عملهم، وتواريخ اقتراف الجرائم وطبيعة تلك الجرائم، ومع توفيرها وثائق عينية وأدلة حسية تخدم القضاء والمؤرخين. وقد بدأت الهيئة المؤقتة أعمالها يوم 17 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، بعد أن تلقت أكثر من 62 ألف شكوى. وتعقد جلساتها بصورة علنية، حيث تُنقل على أثير التلفزيون الرسمي، ويمكن أن تكون الجلسة سرية إذا رغبت الضحية، أو ذووها بذلك.
أُدلي بالشهادات التي تم الاستماع اليها في أجواء وجدانية مؤثّرة، طفرت معها دموع نساء ورجال من المستمعين، وتميزت شهادة الباحث سامي براهم، السجين السياسي في عهد زين العابدين بن علي، بنضج فكري إنساني وعاطفي، ما يجعل من الرجل أيقونة تونسية جديدة (بعد أحمد الحفناوي صاحب مقولة "لقد هرمنا في انتظار هذه اللحظة"، والشهيد محمد البوعزيزي)، وذلك لما أبداه من غيرةٍ مُرهفةٍ على سُمعة وطنه التي لطّخها الجلادون، وعلى حقوق شعبه، ولما تمتع به من روح التسامح والتعالي عن جرحه الشخصي، إذ كان جُل ما طلبه أن يعترف الجلادون بجرائمهم، ويعتذروا عن ارتكابهم لها، وليس غير ذلك. وقال في هذا الصدد: لغيري من الضحايا أن يتقدّموا بمطالب أخرى أبعد من ذلك، ولهم الحق في هذا، أما أنا فيكفيني الاعتراف والاعتذار"، ولوحظ وجود شخصيات عامة بين الحضور.
وخلافاً للانطباع الأولي عن قيام هذه الهيئة ومباشرتها عملها، فإن مدار اختصاصها يبدأ منذ العام 1955 عشية استقلال تونس، وحتى نهاية العام 2013، وبذلك فإن حكم الحبيب بورقيبة الذي امتد منذ الاستقلال حتى 1987 مشمول باختصاص هذه الهيئة المؤقتة، وكذلك السنوات الثلاث الأولى من عهد الثورة، ولعل المقصود بذلك هو القيام بجردة حساب للماضي كله، ابتداء من التمتع بالاستقلال، حتى إلى ما قبل أقل من ثلاث سنوات على إنشاء الهيئة ومزاولتها عملها. ولأن الحقب الثلاث لا تخلو من اتصالٍ ما بينها، فعهد بن علي هو امتداد لعهد بورقيبة، وعهد الثورة اتسع لعدد كبير من قيادات "التجمع الدستوري"، الحزب الحاكم سابقاً، ورموزه.
تهدف الهيئة، إذن، إلى التعرف على التجاوزات الجسيمة وظروف ارتكابها، وكشف الحجاب
عن أسرار تتعلق بأداء أجهزة رسمية، مع تسمية تلك الأجهزة والقائمين عليها. وقد لوحظ أن الباحث سامي براهم تجنب ذكر أسماء القائمين على السجن، وعلى أعمال التعذيب، واكتفى بالإشارة إلى مراكزهم الوظيفية، حتى أنه تجنب ذكر اسم أستاذ استضافه مركز الاعتقال لإلقاء محاضرةٍ على السجناء عن حقوق الإنسان يوم 10 ديسمبر 1992 الذي صادف اليوم العالمي لحقوق الإنسان، وحيث تعرض براهم إلى التعذيب في ذلك اليوم بعد استماعه، وهو السجين، لمحاضرة المحاضر.
ليس معلوماً كيف سيمكن الاستماع إلى عشرات آلاف الضحايا، خلال العامين ونصف العام، وهي المدة التي سيستغرقها عمل الهيئة، وإن من الواضح أنه سوف يتم الاكتفاء بالنظر في الشكايات والإفادات المكتوبة، لنسبة كبيرة من الضحايا أو ذويهم.
وعلى الرغم من أنها لن تصدر أحكاماً بحق أحد، ولن تعاقب أحداً، فإن الرئيس السابق، زين العابدين بن علي، أصدر الخميس، 24 نوفمبر الجاري، بياناً من منفاه اتهم فيه هيئة الحقيقة والكرامة بـ "التفرقة بين التونسيين". واستند في اتهامه إلى أن الهيئة استمعت لطرف واحد، ولم تستمتع للطرف الآخر. بما يجعلها حسب البيان "تطمس الحقائق بدل إبرازها، والتاريخ لا تصنعه أنصاف الحقائق". ولوحظ أن بيان بن علي اعترف بارتكاب تجاوزات، وقد فات من أصدر البيان أن الناس ظلت تستمع ليل نهار لطرف واحد على مدى 23 عاماً متصلاً، هو الطرف السلطوي، وقد جاء الآن دور الطرف الثاني المستضعف للحديث، مُمثلاً بالضحايا. وفي واقع الأمر، يقترح هذا البيان ضمنياً تفعيل القضاء، وإجراء محاكمات ذات أركان قانونية متكاملة، وهذا يتجاوز سقف اختصاصات الهيئة، ويستجيب لا بد لطموحات نسبة عالية من الضحايا الذين ينشدون العدالة، لا مجرد الكشف عن الحقيقة وإعلاء شأن الكرامة. والمثير بعدئذ أنه ما دام الرئيس السابق يعترف بوقوع أخطاء وتجاوزات في عهده، فما الضير من بث تفاصيل تلك الأخطاء والتجاوزات، ولماذا ينبغي أن تظل طي الكتمان؟ على أن البيان لا يتوقف عند ذلك، إذ يتحدث عن لجنةٍ "تمّ تشكيلها للنظر في التجاوزات والانتهاكات التي وقعت، برئاسة الرشيد إدريس، وأذنّا نحن بالتعويض عن الأضرار المادية والمعنوية الناجمة عن ذلك"، وهو ما يمكن النظر فيه على المستوى القضائي، أو ضمن عمل هيئة الحقيقة والكرامة باستدعاء تلك اللجنة، والتعرف على ما قام به رئيسها وأعضاؤها.. ثم الاستماع بعدئذ إلى شهادات وإفادات عن واقع الحال في سنوات لاحقة، وذلك لبيان وتبيّن مفعول عمل تلك اللجنة في مجال حقوق الإنسان.
قال الباحث سامي براهم، في شهادته المؤثرة، إنه ليس متيقناً أبداً من أن الانتهاكات التي جرت سابقاً لن تتكرر لاحقاً. لم يبُح الرجل بذلك بنازعٍ راديكاليٍّ ينشد "تغييراً جذرياً"، ولا قاله
بداعي التشكيك بالإجراءات المتخذة. ولكن، لأنه، وكما يفيد سياق حديثه، لا يقع على ضمانات، تكفل القطع مع هذا الجانب المظلم من الماضي. ولا شك أن إنشاء هيئة الحقيقة والكرامة يمثل خطوة أساسية في أي انتقال مأمول إلى عهد سيادة القانون، وسريان المحاسبة والمساءلة على الجميع، بمن فيهم الذين يشرّعون القانون ويطبقّونه. وسبق أن أقدم بلد عربي آخر، هو المغرب، على هذه التجربة، حين شكلت هيئة الإنصاف والمصالحة في أواخر العام 2003، والتي أنصفت ضحايا عديدين، وأعادت لهم حقوقهم مع التعويض عما فقدوه وخسروه. وتكمن أهمية مثل هذه التجارب في أنها تنشر مناخاً صحياً ينتصر للضحايا، ويعتزّ بهم، وتعزل الجلادين، وتضعهم نظرياً تحت تصرّف القضاء وتحت أنظار الجمهور، وترفع من شأن القانون، وتشجّع على احترام العدالة، وتنشر وعياً قانونياً، وتمثل وثائقها ذخيرة للقضاء، وبدليل أن وضع الحريات والحقوق العامة والفردية قد تحسّن بعد إنشاء تلك الهيئة، وازدهرت المنظمات الحقوقية المستقلة النشطة. كما نشطت وسائل الإعلام والاتصال في تقصّي أحوال حقوق الإنسان، ولم يؤد الكشف عن الانتهاكات والفظائع إلى اندلاع موجة عنف أو انتقام أو تعكير السلم الاجتماعي.
يمثل ارتفاع صوت الضحايا في المنابر الإعلامية الرسمية، والتعويض المادي والمعنوي لهم، والتأشير على مواقع وجود الجلادين، والتعريف بجرائمهم، نصف الطريق إلى إحقاق العدالة، وهو ما يجعل هذه التجربة موضع ترحيب عميق.
أُدلي بالشهادات التي تم الاستماع اليها في أجواء وجدانية مؤثّرة، طفرت معها دموع نساء ورجال من المستمعين، وتميزت شهادة الباحث سامي براهم، السجين السياسي في عهد زين العابدين بن علي، بنضج فكري إنساني وعاطفي، ما يجعل من الرجل أيقونة تونسية جديدة (بعد أحمد الحفناوي صاحب مقولة "لقد هرمنا في انتظار هذه اللحظة"، والشهيد محمد البوعزيزي)، وذلك لما أبداه من غيرةٍ مُرهفةٍ على سُمعة وطنه التي لطّخها الجلادون، وعلى حقوق شعبه، ولما تمتع به من روح التسامح والتعالي عن جرحه الشخصي، إذ كان جُل ما طلبه أن يعترف الجلادون بجرائمهم، ويعتذروا عن ارتكابهم لها، وليس غير ذلك. وقال في هذا الصدد: لغيري من الضحايا أن يتقدّموا بمطالب أخرى أبعد من ذلك، ولهم الحق في هذا، أما أنا فيكفيني الاعتراف والاعتذار"، ولوحظ وجود شخصيات عامة بين الحضور.
وخلافاً للانطباع الأولي عن قيام هذه الهيئة ومباشرتها عملها، فإن مدار اختصاصها يبدأ منذ العام 1955 عشية استقلال تونس، وحتى نهاية العام 2013، وبذلك فإن حكم الحبيب بورقيبة الذي امتد منذ الاستقلال حتى 1987 مشمول باختصاص هذه الهيئة المؤقتة، وكذلك السنوات الثلاث الأولى من عهد الثورة، ولعل المقصود بذلك هو القيام بجردة حساب للماضي كله، ابتداء من التمتع بالاستقلال، حتى إلى ما قبل أقل من ثلاث سنوات على إنشاء الهيئة ومزاولتها عملها. ولأن الحقب الثلاث لا تخلو من اتصالٍ ما بينها، فعهد بن علي هو امتداد لعهد بورقيبة، وعهد الثورة اتسع لعدد كبير من قيادات "التجمع الدستوري"، الحزب الحاكم سابقاً، ورموزه.
تهدف الهيئة، إذن، إلى التعرف على التجاوزات الجسيمة وظروف ارتكابها، وكشف الحجاب
ليس معلوماً كيف سيمكن الاستماع إلى عشرات آلاف الضحايا، خلال العامين ونصف العام، وهي المدة التي سيستغرقها عمل الهيئة، وإن من الواضح أنه سوف يتم الاكتفاء بالنظر في الشكايات والإفادات المكتوبة، لنسبة كبيرة من الضحايا أو ذويهم.
وعلى الرغم من أنها لن تصدر أحكاماً بحق أحد، ولن تعاقب أحداً، فإن الرئيس السابق، زين العابدين بن علي، أصدر الخميس، 24 نوفمبر الجاري، بياناً من منفاه اتهم فيه هيئة الحقيقة والكرامة بـ "التفرقة بين التونسيين". واستند في اتهامه إلى أن الهيئة استمعت لطرف واحد، ولم تستمتع للطرف الآخر. بما يجعلها حسب البيان "تطمس الحقائق بدل إبرازها، والتاريخ لا تصنعه أنصاف الحقائق". ولوحظ أن بيان بن علي اعترف بارتكاب تجاوزات، وقد فات من أصدر البيان أن الناس ظلت تستمع ليل نهار لطرف واحد على مدى 23 عاماً متصلاً، هو الطرف السلطوي، وقد جاء الآن دور الطرف الثاني المستضعف للحديث، مُمثلاً بالضحايا. وفي واقع الأمر، يقترح هذا البيان ضمنياً تفعيل القضاء، وإجراء محاكمات ذات أركان قانونية متكاملة، وهذا يتجاوز سقف اختصاصات الهيئة، ويستجيب لا بد لطموحات نسبة عالية من الضحايا الذين ينشدون العدالة، لا مجرد الكشف عن الحقيقة وإعلاء شأن الكرامة. والمثير بعدئذ أنه ما دام الرئيس السابق يعترف بوقوع أخطاء وتجاوزات في عهده، فما الضير من بث تفاصيل تلك الأخطاء والتجاوزات، ولماذا ينبغي أن تظل طي الكتمان؟ على أن البيان لا يتوقف عند ذلك، إذ يتحدث عن لجنةٍ "تمّ تشكيلها للنظر في التجاوزات والانتهاكات التي وقعت، برئاسة الرشيد إدريس، وأذنّا نحن بالتعويض عن الأضرار المادية والمعنوية الناجمة عن ذلك"، وهو ما يمكن النظر فيه على المستوى القضائي، أو ضمن عمل هيئة الحقيقة والكرامة باستدعاء تلك اللجنة، والتعرف على ما قام به رئيسها وأعضاؤها.. ثم الاستماع بعدئذ إلى شهادات وإفادات عن واقع الحال في سنوات لاحقة، وذلك لبيان وتبيّن مفعول عمل تلك اللجنة في مجال حقوق الإنسان.
قال الباحث سامي براهم، في شهادته المؤثرة، إنه ليس متيقناً أبداً من أن الانتهاكات التي جرت سابقاً لن تتكرر لاحقاً. لم يبُح الرجل بذلك بنازعٍ راديكاليٍّ ينشد "تغييراً جذرياً"، ولا قاله
يمثل ارتفاع صوت الضحايا في المنابر الإعلامية الرسمية، والتعويض المادي والمعنوي لهم، والتأشير على مواقع وجود الجلادين، والتعريف بجرائمهم، نصف الطريق إلى إحقاق العدالة، وهو ما يجعل هذه التجربة موضع ترحيب عميق.