04 نوفمبر 2024
تونس.. المناظرات والقرار الانتخابي
أتاحت المناظرات التي جرت أخيرا بين المترشحين للانتخابات الرئاسية التونسية، وتناقلتها وسائل إعلام محلية ودولية ثلاثة أيام، وبقطع النظر عن دقتها وجودتها، أتاحت اكتشاف أو إعادة اكتشاف المترشحين بشكل مختزل طبعا، كعادة المناظرات والاختبارات التي تجتث المترشح من السياق العام ومسار حياته وتاريخه الخاص وشبكة تفاعلاته، وتضعه أمام امتحان ... ليست مؤكدةً دقة المناظرة في رسم صورة دقيقة وافية عن حقيقة إمكانات المترشح للانتخابات الرئاسية، وجدارته في إدارة مرحلة مقبلة، لا تفصح عن جميع الاختبارات التي سيوضع فيها المترشح/ رئيس الجمهورية، فقد يخبئ القادم ما لم يتوقع الرئيس، وما لم يجب عنه أصلا في مختلف الأسئلة التي ألقيت عليه. ولكن تثبت الإحصائيات المتوفرة أن تلك المناظرات حطمت أرقاما قياسية، من حيث نسب المشاهدين، إذ قل أن اجتمع التونسيون في اللحظة نفسها لمتابعة حدث وطني، فكانت المقاهي مكتظة، فيما يشبه تحلقهم حول مباريات كرة القادم المثيرة.
هذا التركيز على المترشحين، على الرغم من أهميته، قد يغفل استحضار ثلاث مسائل مهمة:
هل تؤثر هذه المناظرات على الناخبين، وإلى أي حد؟ ما هي النسب المتوقعة مثلا للناخبين الذين اختاروا، أو رجحوا من خياراتهم الانتخابية العديدة، وحسموا الأمر استنادا فقط إلى
المناظرات تلك؟ يخيل إلي أن التونسيين، وفي سياق تونسي محض، لا يتابعون المناظرة نفسها، فردود أفعالهم متباينة تجاه أداء المترشح الواحد.. وهذا يعيدنا إلى معضلة التلقي وتعقد القرار الانتخابي.. قبل عقود، انهارت ثنائية الباث والمتلقي التي نظّر لها المهندس وعالم الرياضيات الأميركي، كلود شانون، وهي التي صاغت مقاربة الإشهار والإعلام أكثر من عقدين.. الرسالة الواحدة التي يبعث بها المترشح تؤول بطرق مختلفة. يتلقى الناخب، في هذه الحالة، رسائل المترشح في المناظرة وفق تكوينه وميولاته وذاكرته الانتقائية وجيوب الممانعة النفسية المسبقة التي صاغت صورا جاهزة عن المترشح، فهل إن يساريا ما قد تشكلت صورته عن مرشح حركة النهضة، الشيخ عبد الفتاح مورو، سيقتنع به، لمجرّد أن أداءه كان جيدا في المناظرة؟ هل إن إسلاميا ما تشكلت له صورة مسبقة عن المترشح منجي الرحوي (يساري) سيغيّر من قناعاته بشأن الرجل لمجرد إعجابه به في أثناء المناظرة؟ (مجرد أمثلة بيداغوجية قصوى).
ربما شكلت الفئات الواسعة من الناخبين خزانا لما يُعرفون بالناخبين المناصرين، حيث يكون سلوكهم الانتخابي أقرب إلى مساندة الجمهور الرياضي فرقه المفضلة، مع كثير من التعصب والحماس. ولنتذكّر كيف يغضب الجمهور الرياضي على فريقه عند الخسارة مثلا، ولكن ما أن يمر بمحنة أو اختبار حتى يهب لنصرته. جمهور الناخبين هؤلاء غير معني بأداء مترشحيهم المفضلين إلا على قاعدة المفاخرة، مهما ارتكبوا من أخطاء. سينجدونهم. ومثالا، رئيس حزب قلب تونس، نبيل القروي القابع في السجن، لملاحقة قضائية تتهمه بتبييض الأموال والتهرّب الضريبي، وتمنحه مؤسسات سبر الآراء حظوظا وافرة في الفوز والترشح للدور الثاني، لم يحضر المناظرة أصلا، ولم يقدم حملته الانتخابية. ولا تعني صورته السلبية في أوساط النخب السياسة من خصومه تماما أنصاره، و قد يهتف "داوني بالتي كانت هي الداء"، وهو الذي استطاع خلال سنوات من "العمل الخيري" أن يروّج صورته حبيب الفقراء. شبّه نفسه بالأم تيريزا، وذهب أنصاره إلى رفعه الى مرتبة شافيز أو غاندي.
مع كل ما سبق، قد تكون تلك المناظرات مفيدة لقطاعات واسعة من الناخبين، من غير
المتحزّبين، الذين يختارون مترشحيهم، استنادا إلى تقييماتهم التي تنطبع لديهم من معلومات ترد إليهم من قنوات الإعلام في الأمتار الأخيرة من هذا السياق الانتخابي. يتأثر هؤلاء بما يتلقون، سواء من وسائل الإعلام أو دوائر الصداقة والزمالة والعائلة. وفي أوطان ما زالت تتدرب على الديمقراطية، وفي سياق تونسي محض، حيث انفلتت وسائل الإعلام، وعجزت هيئات عن فرض القانون تحت ضغط نفوذ المال الفاسد ولوبيات المصالح، سيبدو القرار الانتخابي أحيانا لا يعكس الإرادة الحرة للناخبين. وإذا صحت نتائج سبر الآراء التي تحجر خلال الحملة الانتخابية، فإن القرار الانتخابي لطيف واسع من التونسيين لا تمليه القناعات الفكرية، ولا الصور النمطية التي تُبنى عن السياسيين الكلاسيكيين، بل هؤلاء الذين يمتلكون حظوظا وافرة للمرور إلى الدور الثاني صاغوا صورتهم من خارج "السيستام" وطقوسه. زهد بعضهم في الإعلام، بل وقاطع المساحات التلفزيونية التي خصصت له، رفضا لما يسمّونها البروباغندا الانتخابية، وتمسّكا بطهورية حالمة.
لا توجد صراعات جادة حادة في هذه الحملة الانتخابية التي لا تدور حول مشاريع مجتمعية وقضايا كبرى. ولكن في مفارقة غريبة، تحتدم فيها صراعات شخصية لا تندلع بين ممثلي العائلات السياسية الكبرى في البلاد: دستوريون، إسلاميون، قوميون، يساريون، كما تعودنا في الانتخابات التي جرت بعد الثورة، ولكن تندلع بين طموحات شخصية متورّمة.. يوجد تسابق معقد، تختلط فيه الطموحات تلك مع رغبةٍ في الثأر السياسي من الخصوم، وما أكثرهم.
هل تؤثر هذه المناظرات على الناخبين، وإلى أي حد؟ ما هي النسب المتوقعة مثلا للناخبين الذين اختاروا، أو رجحوا من خياراتهم الانتخابية العديدة، وحسموا الأمر استنادا فقط إلى
ربما شكلت الفئات الواسعة من الناخبين خزانا لما يُعرفون بالناخبين المناصرين، حيث يكون سلوكهم الانتخابي أقرب إلى مساندة الجمهور الرياضي فرقه المفضلة، مع كثير من التعصب والحماس. ولنتذكّر كيف يغضب الجمهور الرياضي على فريقه عند الخسارة مثلا، ولكن ما أن يمر بمحنة أو اختبار حتى يهب لنصرته. جمهور الناخبين هؤلاء غير معني بأداء مترشحيهم المفضلين إلا على قاعدة المفاخرة، مهما ارتكبوا من أخطاء. سينجدونهم. ومثالا، رئيس حزب قلب تونس، نبيل القروي القابع في السجن، لملاحقة قضائية تتهمه بتبييض الأموال والتهرّب الضريبي، وتمنحه مؤسسات سبر الآراء حظوظا وافرة في الفوز والترشح للدور الثاني، لم يحضر المناظرة أصلا، ولم يقدم حملته الانتخابية. ولا تعني صورته السلبية في أوساط النخب السياسة من خصومه تماما أنصاره، و قد يهتف "داوني بالتي كانت هي الداء"، وهو الذي استطاع خلال سنوات من "العمل الخيري" أن يروّج صورته حبيب الفقراء. شبّه نفسه بالأم تيريزا، وذهب أنصاره إلى رفعه الى مرتبة شافيز أو غاندي.
مع كل ما سبق، قد تكون تلك المناظرات مفيدة لقطاعات واسعة من الناخبين، من غير
لا توجد صراعات جادة حادة في هذه الحملة الانتخابية التي لا تدور حول مشاريع مجتمعية وقضايا كبرى. ولكن في مفارقة غريبة، تحتدم فيها صراعات شخصية لا تندلع بين ممثلي العائلات السياسية الكبرى في البلاد: دستوريون، إسلاميون، قوميون، يساريون، كما تعودنا في الانتخابات التي جرت بعد الثورة، ولكن تندلع بين طموحات شخصية متورّمة.. يوجد تسابق معقد، تختلط فيه الطموحات تلك مع رغبةٍ في الثأر السياسي من الخصوم، وما أكثرهم.