10 نوفمبر 2024
تونس بين فكي الثعبان الأسود
مع نهاية كل سنة، يندلع جدل عاصف في تونس بشأن ميزانية السنة الموالية. لقد تحول ذلك بمثابة رياضة موسمية جماعية إجبارية وقاسية، ترتفع خلالها نسب القلق والغضب والمناورة، وتحف بها حالةٌ من التوتر الشديد، بسبب ضغط الوقت، وتعدّد الحيل والمزايدات بين مختلف مجموعات الضغط والمصالح، لأن المصادقة على الميزانية يجب ألا تتجاوز نهاية شهر ديسمبر/ كانون الأول، وهو ما جعل كل الميزانيات المتلاحقة بعد الثورة يطغى عليها الارتجال، وتفتقر مناقشتها أحيانا للحس النقدي والتعقل والشعور بالمسؤولية وعدم الإقدام على الإصلاحات الكبرى. ولهذا السبب، يشعر التونسيون في كل مرة بأن باخرة الوطن تترنح في وسط بحر شديد الاضطراب .
لم يختلف الأمر هذه المرة عن السنوات السابقة، لكن الشعور بالخطر ازداد حدة. وسنقف في هذا المقال عند ثعبان كان يستخف به معظم السياسيين والخبراء، ونقصد به التداين الخارجي، غير أن هذا الثعبان تضخم حجمه بشكل غير مسبوق، حتى بلغ 70% بعد أن كان قبل الثورة لا يتعدى سقف 35%. فكل حكومة تأتي تلقي نظرة على ذلك الثعبان، تستهين به، وقد تخاف من مواجهته، ثم تستجيب لحاجياته، وتندفع في اتجاهين، أولهما تكرار الالتزام بدفع فوائضه السابقة. ومن جهة أخرى، تستنفد كل طاقاتها من أجل الحصول على ديون إضافية، لتغطية حاجياتها القديمة والجديدة.
يقول الخبراء إن تونس تقترب من خط اللاعودة، لأن ميزانية السنة الموالية أي 2019 قد تكون محكومة بنوع من الحلقة العبثية، حيث قد تضطر حكومة يوسف الشاهد، أو من سيرثها، إلى تخصيص كل القروض التي ستبحث عنها في الأسواق المالية الدولية، من أجل تسديد فائض الديون السابقة، وما يعنيه ذلك من شلل للاقتصاد، وما يتبعه من تداعيات سلبية على مقومات التنمية والاستقرار الاجتماعي والسياسي.
طرحت مسألة الديون مباشرة بعد الثورة. ودار حول هذه المعضلة جدل واسع ومعقد بين السياسيين وخبراء الاقتصاد. كانت أحزاب أقصى اليسار بالخصوص (إلى جانب منظمات في المجتمع المدني) تدعو إلى الإعلان عن عدم استعداد تونس، دفع ما هو متخلد في ذمتها من "ديون كريهة"، أي استغلال الظرف الثوري الذي كانت عليه تونس لإقناع الأطراف الدولية بضرورة شطب هذه الديون، نظرا لكونها لم تذهب في صالح التونسيين، وإنما ذهبت، في الغالب، لتعزيز ماكينة الفساد التي اشتغلت بشكل غير مسبوق في العهد السابق، وأدت إلى ما يعرف بحكم العائلة.
لم يكن هذا الأمر غائباً عن عيون مؤسسات التمويل الدولية. لكن هذه الدعوة لم تمر، نظراً لوجود أغلبية واسعة ناهضت هذا الطرح، واعتبرت الاقتصاد التونسي قادراً على أن يستعيد عافيته خلال فترة وجيزة، ولهذا حفاظاً على صورة تونس في الخارج، وحتى لا ينظر إليها وكأنها قد تحولت إلى دولة فاشلة، تم الالتزام بدفع أصل الديون القديمة والجديدة، إلى جانب الفوائض المترتبة عنها.
صحيح أن تونس، بفضل ذلك، حافظت على سمعة جيدة في الأسواق المالية العالمية، لكن الرأسمالية العالمية لم تقدر ذلك، وإنما تعاملت معها بكثير من الانتهازية والجشع.
قارن أحد المختصين في الاقتصاد بين تعامل المجموعة الأوروبية مع اليونان من جهة ومع تونس من جهة أخرى. يمر البلدان بأزمة هيكلية متشابهة، لكن أثينا حصلت على دعم مالي، فاق ما حصلت عليه تونس بنسبة 35 مرة!.
أدرك البرلمانيون الأوروبيون خطورة الأزمة التونسية، وتداعياتها الخطيرة على دول شمال المتوسط، فطالبوا حكوماتهم أخيرا بتحويل ديونها في تونس إلى استثمارات. وهو ما فعله بعضهم بشكل جزئي مع صمت البقية.
مهما كانت تبريرات الحكومات الأوروبية والغربية، فالواضح أن هناك قدراً من الاستخفاف بحجم المخاطر التي تهدّد تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس. صحيح أن على التونسيين الاعتماد على أنفسهم، والتوقف نهائيا عن العبث المتواصل هنا وهناك، لكن البلاد ليست قادرة على الاستغناء عن الدعم الخارجي. ومن يزعم غير ذلك فهو يروّج الأوهام، ويحرث في البحر.
لم يختلف الأمر هذه المرة عن السنوات السابقة، لكن الشعور بالخطر ازداد حدة. وسنقف في هذا المقال عند ثعبان كان يستخف به معظم السياسيين والخبراء، ونقصد به التداين الخارجي، غير أن هذا الثعبان تضخم حجمه بشكل غير مسبوق، حتى بلغ 70% بعد أن كان قبل الثورة لا يتعدى سقف 35%. فكل حكومة تأتي تلقي نظرة على ذلك الثعبان، تستهين به، وقد تخاف من مواجهته، ثم تستجيب لحاجياته، وتندفع في اتجاهين، أولهما تكرار الالتزام بدفع فوائضه السابقة. ومن جهة أخرى، تستنفد كل طاقاتها من أجل الحصول على ديون إضافية، لتغطية حاجياتها القديمة والجديدة.
يقول الخبراء إن تونس تقترب من خط اللاعودة، لأن ميزانية السنة الموالية أي 2019 قد تكون محكومة بنوع من الحلقة العبثية، حيث قد تضطر حكومة يوسف الشاهد، أو من سيرثها، إلى تخصيص كل القروض التي ستبحث عنها في الأسواق المالية الدولية، من أجل تسديد فائض الديون السابقة، وما يعنيه ذلك من شلل للاقتصاد، وما يتبعه من تداعيات سلبية على مقومات التنمية والاستقرار الاجتماعي والسياسي.
طرحت مسألة الديون مباشرة بعد الثورة. ودار حول هذه المعضلة جدل واسع ومعقد بين السياسيين وخبراء الاقتصاد. كانت أحزاب أقصى اليسار بالخصوص (إلى جانب منظمات في المجتمع المدني) تدعو إلى الإعلان عن عدم استعداد تونس، دفع ما هو متخلد في ذمتها من "ديون كريهة"، أي استغلال الظرف الثوري الذي كانت عليه تونس لإقناع الأطراف الدولية بضرورة شطب هذه الديون، نظرا لكونها لم تذهب في صالح التونسيين، وإنما ذهبت، في الغالب، لتعزيز ماكينة الفساد التي اشتغلت بشكل غير مسبوق في العهد السابق، وأدت إلى ما يعرف بحكم العائلة.
لم يكن هذا الأمر غائباً عن عيون مؤسسات التمويل الدولية. لكن هذه الدعوة لم تمر، نظراً لوجود أغلبية واسعة ناهضت هذا الطرح، واعتبرت الاقتصاد التونسي قادراً على أن يستعيد عافيته خلال فترة وجيزة، ولهذا حفاظاً على صورة تونس في الخارج، وحتى لا ينظر إليها وكأنها قد تحولت إلى دولة فاشلة، تم الالتزام بدفع أصل الديون القديمة والجديدة، إلى جانب الفوائض المترتبة عنها.
صحيح أن تونس، بفضل ذلك، حافظت على سمعة جيدة في الأسواق المالية العالمية، لكن الرأسمالية العالمية لم تقدر ذلك، وإنما تعاملت معها بكثير من الانتهازية والجشع.
قارن أحد المختصين في الاقتصاد بين تعامل المجموعة الأوروبية مع اليونان من جهة ومع تونس من جهة أخرى. يمر البلدان بأزمة هيكلية متشابهة، لكن أثينا حصلت على دعم مالي، فاق ما حصلت عليه تونس بنسبة 35 مرة!.
أدرك البرلمانيون الأوروبيون خطورة الأزمة التونسية، وتداعياتها الخطيرة على دول شمال المتوسط، فطالبوا حكوماتهم أخيرا بتحويل ديونها في تونس إلى استثمارات. وهو ما فعله بعضهم بشكل جزئي مع صمت البقية.
مهما كانت تبريرات الحكومات الأوروبية والغربية، فالواضح أن هناك قدراً من الاستخفاف بحجم المخاطر التي تهدّد تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس. صحيح أن على التونسيين الاعتماد على أنفسهم، والتوقف نهائيا عن العبث المتواصل هنا وهناك، لكن البلاد ليست قادرة على الاستغناء عن الدعم الخارجي. ومن يزعم غير ذلك فهو يروّج الأوهام، ويحرث في البحر.