تونس: حين تُدير الدّولة ظهرها لضحاياها

29 نوفمبر 2016
+ الخط -

عاشت تونس الأسبوع الماضي على وقع جلسات الاستماع العلنية الأولى التي نظّمتها هيئة الحقيقة والكرامة بهدف كشف الفظاعات التي عانى منها التونسيون خلال حقبتي الاستبداد اللتين تلتا استقلال البلاد من الاحتلال الفرنسي، وتمهيدًا لإعادة كتابة تاريخ البلاد وتنظيف الذّاكرة الوطنية من الشوائب التي دسّها مُؤرّخو البلاط في عهد الحبيب بورقيبة وخلفه زين العابدين بن علي.

أتت هذه الجلسات لتتوّج مرحلة هامّة من عمل الهيئة التي أقرّها دستور 2014 وكلّفها بتفعيل مسار العدالة الانتقالية من خلال كشف الحقيقة عن مختلف الانتهاكات ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها، وجبر الضرر ورد الاعتبار للضحايا لتحقيق المصالحة الوطنية وذلك في الفترة الممتدة بين 1 يوليو/تموز 1955 إلى 31 ديسمبر/كانون الأول 2013، وهو مسار عادة ما تتبناه الدّول التي تشهد تغيّرات عميقة في أنظمة حكمها تنهي بها مرحلة سوداء من تاريخها بديلًا عن آليات العقاب الجماعي والإقصاء والانتقام.

نظمت الجلسات في نادي عليسة في منطقة سيدي بوسعيد في العاصمة، وهو ذو قيمة رمزية إذ كان على ملك زوجة الرئيس المخلوع ليلى بن علي. حضر الجلسات مختصون أجانب في مجال العدالة الانتقالية وممثلو هيئات الحقيقة والكرامة المماثلة في العالم والمنظمات الدولية، وأيضًا عدد كبير من السياسيين رؤساءِ وممثلي الأحزاب والدبلوماسيين والوزراء القدامى والحاليين والنواب السابقين والحاليين وممثلي هياكل القضاء وكبرى الإدارات، إلى جانب عائلات شهداء وجرحى الثورة وضحايا الفترة بين 1955 و2013، وكذلك ممثلي جمعيات ومنظمات المجتمع المدني.

على مدى يومي 17 و18 نوفمبر/تشرين الثاني، تجمّعت العائلات التونسية أمام شاشات التلفاز لمتابعة قصص دراميّة واقعيّة ما كان ليُصدّقها العقل لو لم يُحدّث بها من عاشها. شهادات رواها ضحايا ينتمون لمدارس فكرية مختلفة وكانوا أبطال روايات كُتبت بدمائهم ودموعهم في فترات زمنية مختلفة.

تحدّث الكاتب والمناضل اليساري، جلبار نقاش، الذي عايش تجربة التعاضد (التجربة الاشتراكية في نسختها التونسية) أواخر ستينيات القرن الماضي، عما لحقه زمن الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، حينما تم التفطن إلى انتمائه لمجموعة الدراسات والعمل الاشتراكي (برسبكتيف) سنة 1968، حيث تم إيقافه ونقله إلى مكاتب وزارة الداخلية، التي تعرض فيها لشتى أصناف التعذيب، ما خلف له سقوطًا بدنيًا، واضطرابات حادة في المزاج، ثم توجيهه لسجني "9 أفريل" وبرج الرومي؛ حيث تعرّض لأشكال مختلفة من التنكيل، ليتم إخضاعه للإقامة الجبرية بعد خروجه من السجن قبل إعادة سجنه مرّة أخرى سنة 1972.

من جهته، روى الباحث سامي براهم تجربته في السجون التونسية التي كانت مترعة بوجع مُلطّف أبى راويها إلا أن يترفّق بالتونسيين. تحدّث المُثقّف بصوت أعلى من صوت الضّحيّة الساكنة في كل إنش من جسده الذي استباحه الجلّاد، وقص على التونسيين أحداث الضيم الذي عاشه زمن حكم بن علي، والتي كلفته الإبعاد عن الدراسة حين كان طالبًا بدار المعلمين العليا بسوسة، والتجنيد القسري في 1990، مع عدد من الطلبة المغضوب عليهم، حيث تم نقلهم إلى رجيم معتوق وقفصة وجزيرة زمبرة. لم تتوقف المعاناة بالتجنيد القسري ليجد نفسه محكومًا بالسجن لمدة ثماني سنوات ليشهد فيها صنوفًا أخرى من التعذيب المعنوي والجسدي، ليُؤكّد أن كافة التجاوزات الحاصلة في أسوأ السجون سمعة في العالم كانت تمارس في السجون التونسية.

وبالإضافة لبراهم ونقاش، حضرت قصص من ارتقوا خلال فترة الثورة التونسية على يد بوليس بن علي الذي قتل بدم بارد، وقصص الإسلاميين الذين قُتلوا في السجون وأقبية وزارة الدّاخلية في التسعينيات، بالإضافة للمفقودين والجانب المخفي من حكم بورقيبة في علاقة معارضيه السياسيين من أبناء حزبه وهم اليوسفيون والذين قتل منهم من قتل وعذّب منهم من تبقى على قيد الحياة.

الضّحايا بشهاداتهم قدّموا آيات من النبل والتحضّر قلّ مثيلها في دولنا العربية، ففيهم من يعرف جلاده بالاسم واللقب بل يعرف أين يسكن وأين يعمل، ومع ذلك لم ينتقموا لأوجاعهم ولم يقتصّوا، وآثروا أن تكون العدالة الانتقالية إطارًا لتجاوز الماضي العفن وبادروا قبل الجلاد بالاحتكام لهذا المسار.

ورغم أن الانتهاكات التي شهدتها تونس في عقودها المُظلمة كانت باتفاق الجميع جرائم دولة في حق مُواطنيها، سجّلت جلسات الاستماع الأولى تغيّب الرئاسات الثلاث، وهي رئاسة الجمهورية التي يشغلها الباجي قائد السبسي، ورئاسة الحكومة والتي شغلها يوسف الشاهد، ورئاسة مجلس نواب الشعب التي يشغلها محمد الناصر.

للأسف، تناسى هؤلاء الثلاثة أن مواقفهم الشخصية أو تقييماتهم الذاتية لطريقة عمل هيئة الحقيقة والكرامة لا يجب أن تعلو على رمزيّة الكراسي التي يجلسون عليها. العدالة الانتقالية كانت إحدى الإبداعات التونسية لمُصالحة الآلاف ممن ظلمتهم الأنظمة المتعاقبة مع دولتهم التي لم يروا منها سوى الألم والعذاب، وتغيّب الدّولة عبر تغيب رموزها كانت رسالة سلبيّة قلبت فرح السعي نحو المُصالحة مأتمًا يضاف لمآتم أخرى خبرها المُرهقة أجسادهم والمُلتاعة قلوبهم وأكبادهم.

أدارت الدّولة التونسية ظهرها لضحاياها مُعلنة هزيمتها مرّة ثانية، كانت الأولى عندما صمد عُشّاق الحرّية أمام عصا الجلاد في نزال الاستعصاء مع الأنظمة الدّكتاتورية التي سيّرتها، وأتت الثانية عندما حجّ الضحايا عُزّلًا لأرض المُصالحة ليجدوها خلاءً قفارًا.

المساهمون