08 نوفمبر 2024
تونس.. خطوة أخرى إلى الأمام
خطوة أخرى تخطوها تونس نحو ترسيخ ديمقراطيتها الفتية، على الرغم من الإكراهات الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي تواجهها، والمحيطِ الإقليمي المعادي للديمقراطية، في ظل الجهود التي يبذلها محور الثورة المضادّة لإجهاض مشاريع التحول الديمقراطي في المنطقة، وتوسيعِ دوائر الفوضى وعدم الاستقرار.
يتعلق الأمر بمباشرة القضاء التونسي النظر في قضية الزعيم التونسي الراحل، صالح بن يوسف، الذي اغتيل في غرفة في أحد فنادق فرانكفورت في 1961 على يد مخابرات نظام الرئيس الأسبق، الحبيب بورقيبة، في واحدةٍ من جرائم الدولة المبكرة في المنطقة العربية.
وإذا كانت هذه القضية تستعيد مساحاتٍ من أجواء التدافع والصراع السياسي والفكري الذي واكب بناء الدولة الوطنية غداة الاستقلال، فإنها تطرح، في الوقت ذاته، إشكالات الذاكرة السياسية، والصعوبات التي تواجه مجتمعاتنا العربية في إنجاز مقاربة مغايرة لهذه الذاكرة، من خلال تفكيكها وإعادة تركيبها بشكل متوازن، بحيث يكون إنصافُ الضحايا وردُّ الاعتبار إليهم أحدَ المداخل الكبرى لإعادة كتابة التاريخ الوطني، وإضاءة زواياه المعتمة، باستدعاء القراءات المضادّة التي غيّبتها النخب الحاكمة في سعيها إلى احتكار الحقيقة التاريخية والسياسية.
كان بن يوسف رفيقا لبورقيبة، وشريكا له في النضال ضد الاستعمار الفرنسي، ولعب دورا كبيرا في الحركة الوطنية التونسية. وكان أحد أبرز الوجوه المعارضة لخطة الاستقلال الداخلي التي قبِل بها بورقيبة، هذا فضلا عن توجهه العروبي والتحرّري الذي كان يقلق التيار اليميني المحافظ داخل هذه الحركة، وهو ما شكّل مصدر إزعاج وتهديد للتوازنات الاجتماعية والسياسية التي حرص بورقيبة على وضعها غداة الاستقلال.
ولم يَحسم اغتيالُ بن يوسف، فقط، الصراع لصالح بورقيبة، وخياراته السياسية والاجتماعية المعروفة، بل كان له دور، أيضا، في صياغة التاريخ والذاكرة التونسييْن بشكل أحادي، عزّز نفوذ البورقيبية وسلطتها على الدولة والمجتمع عقودا.
من هنا نُدرك اعتراض بعضهم في تونس على إعادة فتح قضية بن يوسف، على اعتبار أن ذلك ضربٌ من الانتقام، وتغذيةٌ للأحقاد، وتصفيةٌ لحسابات سياسية، وبالتالي نيلٌ من الإرث البورقيبي. ما يعني، بالنسبة لقوى اجتماعيةٍ وسياسيةٍ، تُمثّل البورقيبيةُ أحدَ مواردها الأساسية، ضربةً في مقتل، لا سيما من حيث توقيتها السياسي، هذا على الرغم من أن فتح الملف، وإن جاء عبر القضاء، يظل منحصرا في شقّه المتعلق بكشف الحقيقة، ما دامت إمكانية متابعة المتورّطين أمام القضاء غير واردة لاعتبارات كثيرة.
تجتهد معظم تجارب العدالة الانتقالية في الكشف عن حقيقة الانتهاكات في الماضي، من دون أن تذهب بعيدا في إثارة المسؤولية الجنائية للمتورّطين في هذه الانتهاكات، لما يُمكن أن يُفضي إليه ذلك من إجهاض عملية التحول الديمقراطي التي عادة ما تواكب هذه العدالة وتشتبك مع مساراتها.
اعتراضُ القوى الاجتماعية المتحصّنة بالإرث البورقيبي على فتح قضية صالح بن يوسف ليس إلا هروبا إلى الأمام، ورفضا للكشف عن الحقيقة، وإعادةِ كتابة التاريخ بما ينصف بن يوسف، وغيره من رجالات الحركة الوطنية التونسية، من جهة، ويفتح الطريق أمام ترميم ثقوب الذاكرة الوطنية من جهة أخرى.
يُعيد فتح هذه القضية إلى الواجهة الكتابَ الأسودَ للسياسة العربية، المليءَ بعمليات القتل والتصفية والاختفاء القسري والاعتقال طويل الأمد من دون محاكمة، وهي العمليات التي ظلت خياراتٍ أثيرةً لدى النخب العربية الحاكمة التي لجأت إليها لحسم صراعها مع خصومها ومعارضيها على اختلاف خلفياتهم الفكرية والسياسية، الأمر الذي كان له بالغ الأثر في شيوع ثقافةٍ سياسيةٍ تقوم على الغلبة والسطوة والإقصاء. ولعل نجاح النخب التونسية في فتح هذه الثغرة الدالة في جدار التاريخ والذاكرة التونسيين يجعلنا نستعيد حالاتٍ عربيةً أخرى، ليس محمد نجيب، والمهدي بن بركة، وصلاح جديد، ونور الدين الأتاسي، وكريم بلقاسم، وناصر السعيد، ومنصور الكيخيـا، وجمال خاشقجي وآخرون، إلا أكثرها شيوعا وتداولا.
جولة أخرى تكسبها تونس في معركتها المتواصلة لتعزيز ديمقراطيتها، وتحصين مكتسباتها المختلفة. ومن شأن توسيع هوامش الاجتهاد أمام تجربتها في العدالة الانتقالية أن يفتح أمام هذه الديمقراطية آفاقا أخرى، تجعلها أكثر قدرة على مجابهة التحديات التي تواجهها داخليا وإقليميا.
يتعلق الأمر بمباشرة القضاء التونسي النظر في قضية الزعيم التونسي الراحل، صالح بن يوسف، الذي اغتيل في غرفة في أحد فنادق فرانكفورت في 1961 على يد مخابرات نظام الرئيس الأسبق، الحبيب بورقيبة، في واحدةٍ من جرائم الدولة المبكرة في المنطقة العربية.
وإذا كانت هذه القضية تستعيد مساحاتٍ من أجواء التدافع والصراع السياسي والفكري الذي واكب بناء الدولة الوطنية غداة الاستقلال، فإنها تطرح، في الوقت ذاته، إشكالات الذاكرة السياسية، والصعوبات التي تواجه مجتمعاتنا العربية في إنجاز مقاربة مغايرة لهذه الذاكرة، من خلال تفكيكها وإعادة تركيبها بشكل متوازن، بحيث يكون إنصافُ الضحايا وردُّ الاعتبار إليهم أحدَ المداخل الكبرى لإعادة كتابة التاريخ الوطني، وإضاءة زواياه المعتمة، باستدعاء القراءات المضادّة التي غيّبتها النخب الحاكمة في سعيها إلى احتكار الحقيقة التاريخية والسياسية.
كان بن يوسف رفيقا لبورقيبة، وشريكا له في النضال ضد الاستعمار الفرنسي، ولعب دورا كبيرا في الحركة الوطنية التونسية. وكان أحد أبرز الوجوه المعارضة لخطة الاستقلال الداخلي التي قبِل بها بورقيبة، هذا فضلا عن توجهه العروبي والتحرّري الذي كان يقلق التيار اليميني المحافظ داخل هذه الحركة، وهو ما شكّل مصدر إزعاج وتهديد للتوازنات الاجتماعية والسياسية التي حرص بورقيبة على وضعها غداة الاستقلال.
ولم يَحسم اغتيالُ بن يوسف، فقط، الصراع لصالح بورقيبة، وخياراته السياسية والاجتماعية المعروفة، بل كان له دور، أيضا، في صياغة التاريخ والذاكرة التونسييْن بشكل أحادي، عزّز نفوذ البورقيبية وسلطتها على الدولة والمجتمع عقودا.
من هنا نُدرك اعتراض بعضهم في تونس على إعادة فتح قضية بن يوسف، على اعتبار أن ذلك ضربٌ من الانتقام، وتغذيةٌ للأحقاد، وتصفيةٌ لحسابات سياسية، وبالتالي نيلٌ من الإرث البورقيبي. ما يعني، بالنسبة لقوى اجتماعيةٍ وسياسيةٍ، تُمثّل البورقيبيةُ أحدَ مواردها الأساسية، ضربةً في مقتل، لا سيما من حيث توقيتها السياسي، هذا على الرغم من أن فتح الملف، وإن جاء عبر القضاء، يظل منحصرا في شقّه المتعلق بكشف الحقيقة، ما دامت إمكانية متابعة المتورّطين أمام القضاء غير واردة لاعتبارات كثيرة.
تجتهد معظم تجارب العدالة الانتقالية في الكشف عن حقيقة الانتهاكات في الماضي، من دون أن تذهب بعيدا في إثارة المسؤولية الجنائية للمتورّطين في هذه الانتهاكات، لما يُمكن أن يُفضي إليه ذلك من إجهاض عملية التحول الديمقراطي التي عادة ما تواكب هذه العدالة وتشتبك مع مساراتها.
اعتراضُ القوى الاجتماعية المتحصّنة بالإرث البورقيبي على فتح قضية صالح بن يوسف ليس إلا هروبا إلى الأمام، ورفضا للكشف عن الحقيقة، وإعادةِ كتابة التاريخ بما ينصف بن يوسف، وغيره من رجالات الحركة الوطنية التونسية، من جهة، ويفتح الطريق أمام ترميم ثقوب الذاكرة الوطنية من جهة أخرى.
يُعيد فتح هذه القضية إلى الواجهة الكتابَ الأسودَ للسياسة العربية، المليءَ بعمليات القتل والتصفية والاختفاء القسري والاعتقال طويل الأمد من دون محاكمة، وهي العمليات التي ظلت خياراتٍ أثيرةً لدى النخب العربية الحاكمة التي لجأت إليها لحسم صراعها مع خصومها ومعارضيها على اختلاف خلفياتهم الفكرية والسياسية، الأمر الذي كان له بالغ الأثر في شيوع ثقافةٍ سياسيةٍ تقوم على الغلبة والسطوة والإقصاء. ولعل نجاح النخب التونسية في فتح هذه الثغرة الدالة في جدار التاريخ والذاكرة التونسيين يجعلنا نستعيد حالاتٍ عربيةً أخرى، ليس محمد نجيب، والمهدي بن بركة، وصلاح جديد، ونور الدين الأتاسي، وكريم بلقاسم، وناصر السعيد، ومنصور الكيخيـا، وجمال خاشقجي وآخرون، إلا أكثرها شيوعا وتداولا.
جولة أخرى تكسبها تونس في معركتها المتواصلة لتعزيز ديمقراطيتها، وتحصين مكتسباتها المختلفة. ومن شأن توسيع هوامش الاجتهاد أمام تجربتها في العدالة الانتقالية أن يفتح أمام هذه الديمقراطية آفاقا أخرى، تجعلها أكثر قدرة على مجابهة التحديات التي تواجهها داخليا وإقليميا.