06 نوفمبر 2024
تونس ليست بخير
ينتابني، في كل مرة أزور فيها تونس، إحساس بأن ثورتها التي فجرت الربيع العربي ليست بخير. يزداد، كل مرة، شكّي في أن الثورة المضادة تشتغل بهدوء، وفي الخفاء، لتكفير الناس بالثورة وقيمها. وهناك مؤشرات موضوعية، وأخرى لا يُعرف من يقف خلفها، تجعل المرء ينتابه الإحساس بأن شيئاً ما يدبّر في الخفاء للانقلاب على النموذج الوحيد والأوحد الذي خرج، حتى الآن، سالماً من مؤامرات الثورات المضادة.
يكاد المراقب يلمس المؤشر الأول الموضوعي أول ما يقف في طابور مطار تونس قرطاج. وفي الحقيقة، لا يتعلق الأمر بطابور، لأن صالة المطار تبدو شبه فارغة، وهذا مؤشر سيىء، يبين إلى أي حد "نجحت" الهجمات الإرهابية التي شهدتها تونس في تخويف السياح، وإنهاك واحد من أهم القطاعات الاقتصادية التي يقوم عليها الاقتصاد التونسي. وإذا كان الإرهابيون المنفذون شبه معروفين، إلا أنه من غير المؤكد معرفة الجهة أو الجهات المستفيدة من أعمالهم الإرهابية التي تخدم أجندة أعداء الثورة.
المؤشر الثاني الموضوعي يلاحظه المتجول في شوارع تونس العاصمة وأزقتها. لا شيء تغير، تقريباً، منذ اندلاع الثورة قبل خمس سنوات. حالة جمود شبه كامل تخيم على جميع القطاعات. حتى رافعات البناء التي توقفت عن العمل لحظة قيام الثورة ما زالت واقفة مثل أشباح حديدية في مكانها، وفي الحركة نفسها التى توقفت عندها، عندما أُعلن عن هروب زين العابدين بن علي. أما الشوارع والأزقة التي كان النظام السابق يحرص على تلميعها، واجهة سياحية لإخفاء مظاهر البؤس والفقر الأخرى، فاستحالت إلى كابوس يومي للمارّين بها، بسبب قلة أعمال الصيانة ونقص كبير في مجال النظافة. ويعود سبب هذا الإهمال الكبير في الاعتناء بالمدينة وشوارعها وأرصفتها وإنارتها، بالدرجة الأولى، إلى الفراغ الذي حدث مباشرة بعد الثورة في البلديات. فمنذ خمس سنوات، وتونس تعيش بدون منتخبين محليين لإدارة الشأن المحلي، ومن يتولى هذه الخدمة حتى الآن موظفون. وفي هذا، يتحمل السياسيون مسؤوليةً كثيرة، لأنهم هم الذين أخّروا، وما زالوا، يعطلون إجراء انتخابات بلدية، ولكل حزب سياسي حساباته الخاصة التي تجعله يخاف من إجراء هذه الانتخابات، والمتضرّر الأول هو المواطن الذي تتعطل الكثير من مصالحه، ويفقد خدماتٍ كثيرة تُعتبر واجباً على الدولة تجاه رعاياها. أما المتضرر الثاني فهو الثورة، التي يلعنها المواطن التونسي البسيط، صباح مساء، كلما تعثرت قدماه في شوارع المدينة، بسبب قلة النظافة أو الصيانة أو الإنارة.
أما المؤشرات التي يمكن أن تصنف بأنها ذات طابع "سياسوي"، وتدفع إلى الشك في أن ثمة
شيئاً ما يحاك ضد الثورة في الخفاء، فيتجلى في عدة عناوين. أولها الوضع السياسي الهش لحكومة الائتلاف الحاكم الذي يقوده حزب الرئيس، الباجي قائد السبسي، "نداء تونس"، لكن المفارقة أن هذا الحزب لم يعد أول قوة سياسية في البلاد، بعد الانشقاقات التي أصابته والانسحابات الكثيرة من صفوفه. وإذا كان هذا الحزب ما زال مستمرا على رأس الدولة والحكومة، فهو مدين بذلك لحزب "النهضة" الإسلامي، حليفه وشريكه داخل الحكومة. فحزب "النهضة" اليوم هو أكبر وأقوى قوة سياسية داخل الحكومة والبرلمان، بل وحتى داخل تونس. أما الحزب الحاكم فقد تحول إلى رهينة في يد "النهضة"، بعد أن أنهكته خلافات أعضائه و"أبوية" رئيسه ومؤسسه الرئيس، الباجي قائد السبسي، الذي يسعى إلى توريث حزبه لابنه من بعده.
المؤشر الثاني، هو الذي نطالعه من خلال عناوين الصحف التي تنشط في نشر أخبار قادة حزب الرئيس الهارب، "التجمع الدستوري". فتكاد الصحف والمواقع الإلكترونية التونسية لا تخلو من الأخبار حول تحركات ونشاط ما يوصف في تونس بـ "المنظومة القديمة"، أو "النظام القديم". تكثر الأخبار عن لقاءات زعماء من الحزب الحاكم السابق مع زعماء سياسيين حاليين، مثل لقاء وزير الثقافة السابق في عهد بن علي مع راشد الغنوشي، زعيم حزب "النهضة" الإسلامي الذي كان محظورا أيام بن علي، أو مع مسؤولين في حزب "نداء تونس الحاكم" يروّجون أن المصالحة مع النظام السابق ورموزه خيار استراتيجي.
ويعتبر المروجون للمصالحة مع حزب بن علي ورموزه أن ذلك يدخل في إطار مصالحة وطنية، تسعى إلى تمتين وحدة التونسيين، من أجل بناء "النموذج التونسي" الذي لا يقصي ولا يبعد أي طرف. لكن هذا العرض السياسي لا يروق لحقوقيين كثيرين يقولون إنه لا يمكن الوصول إلى المصالحة من دون المحاسبة. وهنا، المؤشر الثالث، أي تأخر قيام عدالة انتقالية وتعطيلها، فعلى الرغم من أن المجلس التأسيسي السابق صادق على قانونٍ لإنشاء هيئة الحقيقة والكرامة، للإشراف على مسار العدالة الانتقالية في تونس، إلا أن عراقيل كثيرة ما زالت تحول دون قيام هذه الهيئة بمهامها. والمعروف، في التجارب الانتقالية الديمقراطية عبر العالم، أنه لا تصالح بدون عدالة انتقالية، ولا انتقال ديمقراطياً بدون عدالة انتقالية. لكن الملاحظ اليوم في تونس أنه لا وجود لإرادة سياسية حقيقية عند المسؤولين لفتح ملف "العدالة الانتقالية"، الكل يريد أن يطوي الصفحة بسرعة، وفي هذا خطأ كبير، لأن كل التجارب التي رفضت كشف الحقيقة، وقراءة ماضيها، أعادت تكرار أخطائها وبطريقة بشعة.
يقول لي زميل تونسي إن ما يجعل "النموذج التونسي" يبدو من الخارج متماسكاً وجذاباً هو "توازن الضعف". الدولة ضعيفة والحكومة ضعيفة والحزب الحاكم ضعيف والرئيس ضعيف والمجتمع المدني ضعيف والمجتمع التونسي ضعيف والاقتصاد ضعيف.. وكل هذه المؤشرات لا تبشر بخير. أتمنى أن تتعافى تونس، حتى تبقى نبراسا لثورات الربيع العربي.
يكاد المراقب يلمس المؤشر الأول الموضوعي أول ما يقف في طابور مطار تونس قرطاج. وفي الحقيقة، لا يتعلق الأمر بطابور، لأن صالة المطار تبدو شبه فارغة، وهذا مؤشر سيىء، يبين إلى أي حد "نجحت" الهجمات الإرهابية التي شهدتها تونس في تخويف السياح، وإنهاك واحد من أهم القطاعات الاقتصادية التي يقوم عليها الاقتصاد التونسي. وإذا كان الإرهابيون المنفذون شبه معروفين، إلا أنه من غير المؤكد معرفة الجهة أو الجهات المستفيدة من أعمالهم الإرهابية التي تخدم أجندة أعداء الثورة.
المؤشر الثاني الموضوعي يلاحظه المتجول في شوارع تونس العاصمة وأزقتها. لا شيء تغير، تقريباً، منذ اندلاع الثورة قبل خمس سنوات. حالة جمود شبه كامل تخيم على جميع القطاعات. حتى رافعات البناء التي توقفت عن العمل لحظة قيام الثورة ما زالت واقفة مثل أشباح حديدية في مكانها، وفي الحركة نفسها التى توقفت عندها، عندما أُعلن عن هروب زين العابدين بن علي. أما الشوارع والأزقة التي كان النظام السابق يحرص على تلميعها، واجهة سياحية لإخفاء مظاهر البؤس والفقر الأخرى، فاستحالت إلى كابوس يومي للمارّين بها، بسبب قلة أعمال الصيانة ونقص كبير في مجال النظافة. ويعود سبب هذا الإهمال الكبير في الاعتناء بالمدينة وشوارعها وأرصفتها وإنارتها، بالدرجة الأولى، إلى الفراغ الذي حدث مباشرة بعد الثورة في البلديات. فمنذ خمس سنوات، وتونس تعيش بدون منتخبين محليين لإدارة الشأن المحلي، ومن يتولى هذه الخدمة حتى الآن موظفون. وفي هذا، يتحمل السياسيون مسؤوليةً كثيرة، لأنهم هم الذين أخّروا، وما زالوا، يعطلون إجراء انتخابات بلدية، ولكل حزب سياسي حساباته الخاصة التي تجعله يخاف من إجراء هذه الانتخابات، والمتضرّر الأول هو المواطن الذي تتعطل الكثير من مصالحه، ويفقد خدماتٍ كثيرة تُعتبر واجباً على الدولة تجاه رعاياها. أما المتضرر الثاني فهو الثورة، التي يلعنها المواطن التونسي البسيط، صباح مساء، كلما تعثرت قدماه في شوارع المدينة، بسبب قلة النظافة أو الصيانة أو الإنارة.
أما المؤشرات التي يمكن أن تصنف بأنها ذات طابع "سياسوي"، وتدفع إلى الشك في أن ثمة
المؤشر الثاني، هو الذي نطالعه من خلال عناوين الصحف التي تنشط في نشر أخبار قادة حزب الرئيس الهارب، "التجمع الدستوري". فتكاد الصحف والمواقع الإلكترونية التونسية لا تخلو من الأخبار حول تحركات ونشاط ما يوصف في تونس بـ "المنظومة القديمة"، أو "النظام القديم". تكثر الأخبار عن لقاءات زعماء من الحزب الحاكم السابق مع زعماء سياسيين حاليين، مثل لقاء وزير الثقافة السابق في عهد بن علي مع راشد الغنوشي، زعيم حزب "النهضة" الإسلامي الذي كان محظورا أيام بن علي، أو مع مسؤولين في حزب "نداء تونس الحاكم" يروّجون أن المصالحة مع النظام السابق ورموزه خيار استراتيجي.
ويعتبر المروجون للمصالحة مع حزب بن علي ورموزه أن ذلك يدخل في إطار مصالحة وطنية، تسعى إلى تمتين وحدة التونسيين، من أجل بناء "النموذج التونسي" الذي لا يقصي ولا يبعد أي طرف. لكن هذا العرض السياسي لا يروق لحقوقيين كثيرين يقولون إنه لا يمكن الوصول إلى المصالحة من دون المحاسبة. وهنا، المؤشر الثالث، أي تأخر قيام عدالة انتقالية وتعطيلها، فعلى الرغم من أن المجلس التأسيسي السابق صادق على قانونٍ لإنشاء هيئة الحقيقة والكرامة، للإشراف على مسار العدالة الانتقالية في تونس، إلا أن عراقيل كثيرة ما زالت تحول دون قيام هذه الهيئة بمهامها. والمعروف، في التجارب الانتقالية الديمقراطية عبر العالم، أنه لا تصالح بدون عدالة انتقالية، ولا انتقال ديمقراطياً بدون عدالة انتقالية. لكن الملاحظ اليوم في تونس أنه لا وجود لإرادة سياسية حقيقية عند المسؤولين لفتح ملف "العدالة الانتقالية"، الكل يريد أن يطوي الصفحة بسرعة، وفي هذا خطأ كبير، لأن كل التجارب التي رفضت كشف الحقيقة، وقراءة ماضيها، أعادت تكرار أخطائها وبطريقة بشعة.
يقول لي زميل تونسي إن ما يجعل "النموذج التونسي" يبدو من الخارج متماسكاً وجذاباً هو "توازن الضعف". الدولة ضعيفة والحكومة ضعيفة والحزب الحاكم ضعيف والرئيس ضعيف والمجتمع المدني ضعيف والمجتمع التونسي ضعيف والاقتصاد ضعيف.. وكل هذه المؤشرات لا تبشر بخير. أتمنى أن تتعافى تونس، حتى تبقى نبراسا لثورات الربيع العربي.