نسيم
نسيمٌ من جهة البحر.
عابراتٌ بعطرٍ خفيف. أشرعةُ مراكب لا يُرى حيزومُها في وهجة الشمس. قال: وإن لم تكن هذه هي الجنة، فمن تكون؟ نسيمٌ من جهة البحر. عازف غيتارٍ وحوله لمّة. وطعامٌ في كل واحدة من سلال الطريق.
قال: فإن لم تكن هذه هي الجنة، فمن تكون؟
نسيمٌ من جهة الفجر. زاوية مهملة وفِراش. شوارع مغسولة. لا أشرعة. قال: وإن لم تكن هذه هي الجحيم، فمن تكون؟
■ ■ ■
أولاليا
أولاليا تعمل نادلة في بار. وربّ عملها لا يشبع من استغلال العمال. تقول: الاستغلال ورضينا به. فلماذا صار يستبدل الكبيرات منا بالشابّات؟
أولاليا تعمل من التاسعة إلى التاسعة. ومغرب السبت وضحى الأحد، تداوم في ماريا دِل مار، كنيسة برشلونة الأعتق.
أولاليا تذهب إلى هناك، مواصلتين بالمترو، لأنه يروق لها أن تجمع تبرعات المؤمنين الطيبين، ثم تعطيها للقندلفت.
أولاليا تتحسّن نفسيتها عندما تذهب.
تعود لشقتها، نضرةً كما في ريق الشباب.
لكنها سرعان ما ترجع للنكد والتوتر، حالما تبزغ شمسُ الإثنين.
وأمس، ربُ العمل طرد أولاليا.
اتصلت بي، وقابلتها منهارة.
ما العمل يا أميغو؟
اذهبي إلى المحامية، فحتماً ستساعدك.
ذهبتُ، ولم يُجدِ نفعاً.
إذن ما غيره:
اذهبي للقندلفت!
■ ■ ■
وعود
أيام فرن الحطب، كانت كارمين تشبع من الخبز. أكياس القمح تملأ المخزن، وأمها مُعلمة خبيز.
ستون سنة في برشلونة، لا تأكل ذلك الخبز إلا في الكرنفالات. تستيقظ وتروح لتشتري الأرغفة الطازجة بعبقها وبركتها.
في البيت، تَقسم وتأكل.
في البيت، تأكل وتتذكّر.
في البيت، تتذكّر وتبكي.
كل مرة يكون كرنفال في قوس النصر، تشتري وتأكل وتبكي.
ولا مناص، كل مرة، أن تذهب للسيغرادا، لتوقد شمعة بيضاء بشريط أحمر على روح أمها إليسيا.
في البدء، لم تنتبه للأمر.
بعد سنوات، انتبهت.
لا تزور الكنيسة إلا وقت الكرنفال! ماهذا النسيان يا كارمين؟
تخجل من نفسها، وتشعر بالذنب.
انتهى! من الغد، سأزور الكنيسة شهرياً. وسأشعل الشمعة، وأنفح الواقفين على الأبواب.
تقول لنفسها، في شقتها الصغيرة الهادئة، بحي الأحياء التسعة.
ثم ينفد الخبز، وتغيب الرائحة، فيطوي وعودَها النسيان.
■ ■ ■
ظهيرة بيضاء جداً
أقصى يمين الشاطئ، في مكان منعزل نسبياً، تفرد دولوريس منشفتها الزرقاء ذات الزهور البيض وتستلقي كما ولدتها أمها.
كل ثلاثاء تأتي دولوريس إلى نفس المكان، مع طاقم كامل من علب البيرة، وتشرب وتنتظر مرور السنونوات.
تظل راقدة على ظهرها ونهداها إلى الشمس الحارقة، مستطلعة ومحدّقة في أجواز الفضاء.
دولوريس تعشق السنونوات.
حتى أنها تمنّت لو تضع واحداً منها في قفص ليؤنس وحدتها في البيت. لكنْ: سنونو في قفص؟ هذا جنون يا دولوريس.
لم تسمع عن أمر كهذا شفاهياً، ولا حتى قرأت عنه في كتب الخيال الأدبي.
تدهن جسمها الشاهق بمرطِّب وواقي الشمس، وتظل تترقب البشارة حتى تغيب الشمس وراء الجبل.
تعود مع المغرب، وأول ما تفعله، فور دخول البيت، أن تسجل في دفتر اليوميات عدد السنونوات التي رأتها في يومها.
ولو فتحنا ذلك الدفتر لرأينا فقط أرقاماً:
اليوم الموافق كذا: سبعة سنونوات.
اليوم الموافق كذا: اثنان.
وهكذا دواليك.
دولوريس التي تعرف من تخصّصها الأكاديمي أن "بروفرك" كان يقيس حياته بملاعق القهوة، تقيس أيامها هي بأعداد السنونوات.
واليوم الثلاثاء الموافق 20 آب 2013، كانت ظهيرتها بيضاء جداً، وكانت الحصيلة: لا سنونوات في هذه الظهيرة.
فقط نوارس كبيرة نهمة.
وفي أسفل الورقة ملاحظة بالقلم الأحمر: هذه الثلاثاء ليست لكِ.
* شاعر وكاتب فلسطيني مقيم في برشلونة