ثلاث لحظات في الاحتجاجات العراقية

19 ديسمبر 2019
+ الخط -
تندرج حركة الاحتجاج التي يشهدها العراق منذ مطلع أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، في سياق واحد من بحث العراقيين عن دولتهم. في الغالب، يستمد العراقيون وعيهم، في هذا الصراع المستمر، من تجاربهم المباشرة، كما هو واضح، وليس من فعلٍ "تنويري" تقوم به نخبة أو أحزاب. الجمهور نفسه الذي كان يهتف "ماكو ولي إلا علي، نريد حاكم جعفري" في ربيع 1991 يهتف اليوم، وفي المناطق نفسها "أخوة سنة وشيعه، هذا البلد ما نبيعه"، و"باسم الدين سرقونا الحرامية"، و"نريد وطناً"، هذا الهتاف الأخير الذي يشكل في الحقيقة لب الموضوع.
في كل مراحل الاحتجاج، كان يحرّك العراقيين في العمق الدافع نفسه: كسر اغترابهم عن الدولة والبحث عن العدالة في توزيع الثروة. لا يمكن الركون بسهولة إلى أن الجمهور الذي هتف بلغة طائفية ذات يوم كان محرّكه العميق طائفياً. الشعارات الطائفية كانت تبدو للجمهور باباً إلى تلبية الدافع نفسه الذي راح الجمهور نفسه اليوم يطرق، من أجل تلبيته، باباً آخر مضادّاً للطائفية.
سيطرة نخبة مستبدّة تنتمي إلى أقليةٍ سنيةٍ على الدولة في العراق قبل 2003 سهلت للأحزاب الطائفية الشيعية أن تلبس الصراع بين السلطة ومحكوميها لبوساً طائفياً، كان له أن يسيطر، وأن يقنع نسبةً غالبةً من الجمهور، على خلفية ضعف الأحزاب العلمانية العراقية، الأمر الذي تكرّر في سياق الثورة السورية على قدم الحرف، غير أن هذا لا يقود إلى وسم جمهورٍ ما بأنه طائفي. الموضوع هو سيطرة وعي سياسي يقول إن المشكلة تكمن في الانتماء المذهبي للنخبة المستبدّة بالدولة، ما يشحن التمايز الهوياتي المذهبي، ويحرّض الصراع على خطوط طائفية. لكننا نلاحظ اليوم كيف قاد مجرى الصراع المتواصل إلى تحرّر العراقيين من هذا الوهم، وهو الدرس الذي من المفيد أن يقرأه السوريون، فقد يوفر عليهم مزيدا من الدمار والدماء. بديهي أنه ما كان يمكن لهذا التحوّل من الطائفي إلى الوطني في حركات الاحتجاج العراقية أن يكون لو كانت النزعة الطائفية من "طبيعة" هذا الجمهور.
يمكن الإشارة إلى ثلاث لحظات أو تطورات في نضال العراقيين منذ اندلاع ظاهرة الثورات العربية. في اللحظة الأولى، سيطر العنصر السنّي على المظاهرات التي تحرّضت بفعل 
الثورات العربية في تونس ومصر بشكل خاص. وعلى الرغم من تضامن التيار الصدري مع هذه المظاهرات لحساباتٍ سلطوية، إلا أن الاتهامات كانت جاهزةً ومفصلةً على المقاس العربي السنّي في العراق، فقد واجهت هذه المظاهرات الاتهام بالبعثية وبالإرهاب القاعدي، قبل أن تُواجه بالرصاص. حملت مطالب المتظاهرين، في العموم، هموماً "سنّية"، مثل إغلاق جميع الملفات التي تستهدف القيادات السنّية، والكفّ عن تسييس القضاء، وإلغاء قانون "4 إرهاب" الذي يستخدم بشكل مكثف لاستهداف رموز السنّة، وهذا القانون (الذي يهدّد به المتظاهرون اليوم، بالمناسبة) "يعاقب بالإعدام كل من ارتكب - بصفته فاعلا أصليا أو شريك عمل- أيا من الأعمال الإرهابية (..)، ويعاقب المحرّض والمخطط والمموّل، وكل من مكّن الإرهابيين من القيام بالجرائم الواردة في هذا القانون بعقوبة الفاعل الأصلي". ومن المطالب أيضاً، تشريع قانون لحماية الخصوصية الثقافية لأهل السنّة، وتحقيق التوازن في كل مؤسسات الدولة، ومنها المؤسسات العسكرية والأمنية. ينبغي ملاحظة أن هذه المطالب التي تبدو "طائفيةً" هي في العمق وطنية، لأنها في الواقع مطالبة بالمساواة "الوطنية".
في التطوّر التالي، جاءت الاحتجاجات من جمهور التيار الصدري، أي من جمهور شيعي، ولكنه مؤطّر في حزبٍ شيعي طائفي ومشترك في الحكم. لهذا يمكن النظر إليها امتدادا للصراعات داخل مؤسسة الحكم الطائفية. طالبت المظاهرات بمحاربة الفساد (على الرغم من أن التيار ضالع أيضاً في ملفات فساد، أبرزها سيطرته على مطار النجف والاستئثار بعائداته كاملة بعيداً عن الخزينة الاتحادية أو المحلية)، وطالبت بإنهاء المحاصصة الطائفية والسياسية، مع أن التيار ذو بنية وفكر طائفيين. حزب طائفي يحاول مقارعة الخصوم السياسيين الطائفيين 
بالصعود على روافع وطنية.
ولكن الجسد الشيعي لتلك الاحتجاجات أسقط من يد السلطات الشيعية مخزون التهم الجاهزة، وأثار الخشية من نشوب صراع شيعي - شيعي، يفتت القاعدة الشعبية التي يقوم عليها النظام. لذلك لم تواجه هذه المظاهرات بعنفٍ شديد، على الرغم من دخولها المنطقة الخضراء واقتحامها مقر البرلمان ومكتب رئيس الوزراء (حيدر العبادي)، الشيء الذي كان يمكن أن يقود، سوى ذلك، إلى مجزرة.
البطش والاستئثار والفساد الواسع الذي تحرّكت المظاهرات الصدرية ضده، بعد أكثر من عقد من حكم "الحاكم الجعفري"، يشير إلى أن المشكلة الفعلية ليست في الانتماء المذهبي للحاكم، وأن الحياة السياسية أينما كانت هي صراع دائم بين نزوع السلطات إلى الفساد والتفرّد، ونزوع المحكومين إلى تقييد هذا النزوع عند السلطات، وأن التاريخ لم يقدّم لنا نموذجاً لسلطة مثالية تعدل مع شعبٍ نائم عن حقوقه، وأن العدالة ممكنةٌ فقط في القدرة على مأسسة الحضور الشعبي، في مؤسسات الحكم وفي مؤسسات المجتمع المدني، على حد سواء. هذه الإشارة لم تعد بعيدةً عن وعي العراقيين الذين نزلوا في مطلع أكتوبر/ تشرين الأول الماضي (2019) مسجّلين اللحظة أو التطور الثالث المهم في حركة الصراع المستمرّة في العراق.
في هذا التطور يخرج الشيعة ضد "حكم الشيعة" جملةً (شلع قلع كلهم حرامية)، ويهاجمون 
إيران بوصفها السند الأساسي لحكم المحاصصة الطائفية الفاسد. جمهور الاحتجاجات اليوم غير مؤطر حزبياً، واحتجاجات اليوم ليست جزءاً من صراعات أجنحة الحكم. لا وجود لصمام أمان يحمي النظام من هذه المظاهرات، كما كان عليه الأمر في طور الاحتجاجات الصدرية. ولم تفلح محاولات الصدر في ابتلاع هذه الموجة، فمال إلى خروج مناصريه من الشارع.
تتحرّر الاحتجاجات اليوم من الوصاية، يخرج العراقيون اليوم ليطالبوا بوطن، يتعرّفون على أنفسهم عراقيين بدون إضافات، تهترئ القشرة الدينية ليظهر البعد السياسي المعبر عن مصالح جمهور المظاهرات المهمّش والمفقر. وبعد كل شيء، وبعد سنوات "البعث" ثم "داعش"، يرزح السنّة العرب في العراق تحت ثقل هاتين التجربتين، ويحتاجون إلى وقت غير قصير، قبل أن يتحرّروا من نير هذا الإرث الباهظ الذي يقيّد مشاركتهم السياسية ويقيّد، في الفعل نفسه، قدرة العراقيين على تحقيق حلمهم بوطن. من الصعب أن يتحرّر السنة العرب في العراق من هذا الثقل، ما لم تتحرّر الدولة العراقية من ثقل الأحزاب المذهبية.
F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.