أنا مجرّدُ مكانٍ خَرِبٍ ووحيد.
غُرفي الداخلية فارغة من الأثاث، وشبّاكي الوحيد مُعتمٌ لا يُنفذ الضوء. عليه شبكٌ معدنيّ يُكهرب العصافير ويضمن لي صمتاً مستمرّاً.
في الصالون (هكذا قدّرت أن هذه الغرفة يمكن أن تكون) يستلقي كونتراباص قديم. إن وضعتَ أذنك لصق خشبه فستسمع صوت ضحكات تتذبذب محشورةً فيه. لكنه الآن كئيب كخطواتي التي أجرُّها على الأرصفة حين أخرج. مفاتيحه مخلّعةٌ وأوتاره مقطوعةٌ ولا دم يجري في عروق موسيقاه.
بعض أوراقِ نوتةٍ مرميّة في الأرجاء، وكثيرٌ من قطع الزجاج الصغيرة التي تشبه حجارة الفسيفساء. هل يكون زجاج مرايا كانت معلّقة على الجدران يوماً؟ لا أدري. لا أحد يدري. فعازف الكونتراباص كان آخر من تسلّل كالعطر إلى الداخل، وكالعطر: تبخّر.
لم يدخل أحدٌ تلك الغرف لو مرّة بعد أن توقّف العزف، وصرتُ أمرُّ من أمام بيت الأشباح ذاك مُسرعاً واضعاً رأسي في الأرض مُطلِقاً بعض صفيرٍ يدرأُ عنّي ما قد أتوهّمه أصواتاً قادمةً من الداخل.
صراصير كثيرة، كثيرةٌ جداً، ميتة. سجّادة من الصراصير الميتة تُغطّي الأرضيات. واضحٌ أن مجزرةً للصراصير وقعت هنا. كلّها شقراء متوسّطة الحجم. جمالٌ ما يُجلّلها وهي مُلقاة على ظهورها بلا حراك. تذكّرني بنفسي، وبغرفي المتماثلة المتشابهة المتكرّرة المنقلبة على ظهرها. من يريد أن يجوس كل هذا الموت؟
بعضُ لوحاتٍ لا بدّ أنها كانت معلّقة هنا. لم تعد، لكن آثارها على الحائط صنعت لوحات جديدة مناسبة لما أنا فيه الآن، كلّ واحدةٍ منها إطارٌ من الغبار والوسخ يحُدُّ مساحةً كانت بيضاء وتميل الآن إلى الرمادي يخرج من أعلاها مسمار.
إن كُنت مُستمعاً جيّداً، سيقول لك المسمار كم من الذكريات المحنّطة تعلّقت به. سيقول لك المسمار كيف أن الذكريات المعلّقة تشبه دائماً مُتسلّق جبالٍ تعثّر ويتشبّث الآن بحافة الجرف الصخري.
إن كُنتَ مُلاحظاً جيّداً فسترى أن المسامير كلّها هناك في أماكنها، أما متسلّقو الجبال (ويا لسوء حظّهم) فسقطوا. لعلّ هذا هو ما يفسّر الفسيفساء الزجاجية المتحرّكة على الأرض. لعلّها قطعٌ منّي: ألسنا ذكرياتنا كما يُقال؟ ألا نتحطّم إلى آلاف القطع في إثر كلّ سقوط؟
أحياناً أسمع عواءً بعيداً في أرجائي. هل صرت رُجماً تسكنه مخلوقات الليل المتوحّدة؟ وتلك الأعشاب البرّية التي نبتت في كل مكانٍ فيّ وتطاولت.. ستقول لك الأشجار كم من الأطفال لعبوا تحتها يوماً. ستقول لك شجرة الرُّمان كم حجرٍ تلقّت لتُسقط ثمارها العالية. الآن تسقط الرُّمانات متعفّنةً من تلقاء نفسها، ولا يلتقطها أحد.
أمرُّ سريعاً من أمام بيت الأشباح هذا، دون أن أنظر. أمرُّ في طريقي التي تأخذني كل مرّة إلى هذا البيت نفسه. كلّ يوم أغيّر الطريق، وكلّ يوم تقودني خطواتي المستعجلة إلى هنا.
أنا مجرّد مكانٍ خربٍ ووحيد تؤدّي إليه كلّ الطرق. أنا قلبُ متاهةٍ كل مساراتها المتعرّجة أحادية الاتّجاه وتقود إليّ. لن أطرق بابه أبداً، بل سأظل أمرّ من أمامه مستعجلاً، هارباً ممّا أتوهّمه أصواتاً في الداخل.
اقرأ أيضاً: مقدمات لا بدّ منها لـ هشام البستاني أيضاً