ليس مبالغة القول إن ما حصل في باريس صباح السابع من يناير/كانون الثاني زلزال سوف تظهر ارتداداته تباعاً، على غرار ما عاش العالم من تداعيات بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 في الولايات المتحدة. صحيح أن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند لا يشبه الرئيس الأميركي جورج بوش، لكن التربة والمناخ العام من نفس الطينة الفاسدة التي أنتجت حروباً وغزواً ومفاهيم عرجاء حول صراع الحضارات.
فرنسا تلخص اليوم في صورة فاقعة وضع أوروبا التي تعيش صدمة حيال الجريمة وما تبعها من مواجهات ومطاردات للإرهابين الذين نفذوا الاعتداء ضد صحيفة "شارلي إيبدو"، حيث هيمنت أجواء حرب على العاصمة الفرنسية، تابعها الأوروبيون أكثر من غيرهم، نظراً لتشابه الأوضاع والأعراض، وانعكاس النتائج. وبعيداً عن باريس التي تشهد استنفاراً سياسياً وأمنياً غير مسبوق، بدت عواصم أوروبا الأخرى من لندن إلى برلين وروما ومدريد تتحسب لأحداث مشابهة، وأخذت تعد العدة لإجراءات احتياطية، يعبر عنها اجتماع وزراء الداخلية الأوروبيين الذين قرروا أن يلتقوا اليوم في العاصمة الفرنسية، كأول رد على مستوى الاتحاد الأوروبي. وهو الأمر الذي يعني أن القارة العجوز مقدمة على اتخاذ جملة من الإجراءات لا تقل عن تلك التي لجأت إليها الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر/أيلول. وكما جرت العادة، فإن الرد يبدأ بالأمن؛ لأنه أمر لا نقاش فيه، ولكن ترجمته تذهب نحو كافة مناحي الحياة. وهذا ما يضع قرابة نحو 35 مليون مسلم يعيشون في أوروبا إزاء امتحان جديد طويل الأمد، وهنا يصح قول أحد المعلقين في برنامج تلفزيوني فرنسي ساخر في أن "ضحايا جريمة باريس 12 قتيلاً و5 ملايين جريح مسلم".
الأمن سيكون شعار المرحلة إلى أمد بعيد، وهذا لا يعني أن أوروبا كانت فالتة من الناحية الأمنية، بل على العكس، هي لم تقصر في وضع ترسانة من القوانين المشددة بعد 11 سبتمبر/أيلول، لكنها في هذه المرة سوف تنتقل إلى نمط جديد من التعامل يطال مسألة الهجرة في الصميم. وهذه الهجرة ليست قضية ثانوية في التكوين الأوروبي، بل تقع في صلب بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وخصوصاً بالنسبة لفرنسا وألمانيا، إذ تم استقدام مئات آلاف العمال في البنى التحتية، وقد أصبح أبناء وأحفاد هؤلاء مواطنين أوروبيين، ولكنهم لم يندمجوا كلياً في المجال العام، وهنا يكمن أحد أسباب الفشل الفرنسي.
تعتبر فرنسا صاحبة سياسة خاصة في إدماج الأجانب، وقد خصصت لها حيزاً خاصاً من وزارات الشؤون الاجتماعية في حكومات متعاقبة منذ وصول الاشتراكيين للحكم في مطلع الثمانينيات. كما أنها تكاد تكون البلد الأوروبي الوحيد الذي يضع الأديان تحت ظل المؤسسة الحكومية، إذ ألحقت على الدوام بوزارة الداخلية، ولكن لا الاندماج حصل فعلياً بالنسبة للمهاجرين العرب والمسلمين، ولا أفاد المسلمين عناية الدولة بالأديان، أمام جهاز داخلية غير مستوعب لمفهوم المواطنة ومؤسسات إسلامية تمثل سياسات بلدان القائمين عليها أكثر من تمثيلها للجاليات المسلمة. وعلى سبيل المثال دليل أبوبكر إمام جامع باريس الكبير، الذي يشغل هذا المنصب منذ ربع قرن على الأقل، وخلال هذه الفترة تغير العالم كلياً، ولكن إدارة جامع باريس بقيت على حالها، أشبه بالصومعة العصية على الاقتحام من طرف أجيال جديدة تحمل نظرة مختلفة لوضعها ودينها في ظل تنامي العنصرية.
ولعل أبرز مظاهر فشل سياسة الاندماج ما تعيشه الضواحي الفرنسية التي تقطنها أغلبية من جاليات عربية وأفريقية، وهذه عرفت سنة 2005 حركة احتجاجية كبيرة فجرتها تصريحات لوزير الداخلية حينذاك نيكولا ساركوزي، ولكنها نتيجة للتمييز. ومنذ ذلك الحين، لم يتغير شيء في الجوهر، بل تنامت العنصرية حتى صار حزب "الجبهة الوطنية" اليميني المتطرف في المرتبة الثانية، وهناك مخاوف فعلية في الوسط السياسي الفرنسي من وصوله للرئاسة في الانتخابات القادمة عام 2017.
تكبر الهوة كل يوم بين الدولة ومواطنيها الذين ينحدرون من أصول عربية وإسلامية، ولدى كل حدث من نمط الاعتداء على "شارلي إيبدو" تلجأ الدولة إلى أسهل الحلول وهو الأمن، وحتى هذا السلاح لا يتم استخدامه على نحو ناجع. فالجريمة بحد ذاتها هي فشل أمني بالدرجة الأولى تتحمله حكومة مانويل فالس المكروه جداً في أوساط الجاليات العربية والإسلامية. فهذا الرجل الإسباني الأصل لم يصبح فرنسياً إلا في سنة 1982، ومع ذلك يستخدم خطاباً مشبعاً بالعنصرية ضد جاليات متجذرة في فرنسا. وقد اكتسب صيته السيئ حين كان وزيرا للداخلية، قبل أن يرفعه هولاند في الصيف الماضي كرئيس حكومة، متحدياً الأجنحة التقدمية في الحزب الاشتراكي، التي وصفت فالس باليميني والليبرالي.
الفشل الفرنسي ليس أمنياً وعلى صعيد سياسات الاندماج فقط، بل هو إعلامي أيضاً وثقافي، ولا يقف عند المظاهر العادية التي تجاوزتها بلدان أخرى مثل بريطانيا عندما أدخلت وجوها إعلامية من أبناء الجاليات في تقديم نشرات الاخبار التلفزيونية وإدارة البرامج، بل يتجاوزها إلى تنميط صورة المسلم. وقد يكون مصادفة صدور رواية الكاتب ميشيل ويلبيك في نفس يوم الجريمة، ولكنها ليست مفصولة عن سياق ثقافي يسيطر على الميديا الفرنسية. فالرواية التي أطلق عليها اسم "استسلام" كتحوير سطحي للإسلام تتحدث عن وصول مسلم محمد بن عباس إلى رئاسة فرنسا عام 2022، وهذا الكاتب الذي لا يكف عن تحقير المسلمين ووصفهم بـ"الأغبياء" و"الإسلام أسوأ الديانات التوحيدية"، ينزل هذه المرة إلى درك عميق في شتم الدين الإسلامي. وقد سبقه الصيف الماضي أريك زمور اليهودي المغربي الأصل، الذي طالب علانية بطرد المسلمين من فرنسا، وجاءت مضامين كتابه "الانتحار الفرنسي" حافلة بشيطنة الوجود الإسلامي في فرنسا، حيث وجه الدعوة إلى وقف هجرة المسلمين وأطلق على تلك العناصر القادمة من أصول غير فرنسية بأنها "تسونامى ديموغرافى"، مؤكداً أن 7 ملايين مسلم في فرنسا يهددون الصفاء العرقي، خصوصاً في ظل الإحصاءات التي أشارت إلى أن 30% من الزيجات في فرنسا مختلطة.
ليس في وسع الدولة الفرنسية أن تمنع "شارلي إيبدو" عن السخرية من الإسلام، ولا ميشيل ويلبيك واريك زمور من الكتابة، لأن هذا الأمر يمس حرية التعبير، ولكن من ناحية أخرى سنّت الدولة قوانين فيما يتعلق بتناول اليهود مثلاً، وبالتأكيد لا يجرؤ كاتب أن يطالب بإعادة اليهود الجزائريين أو المغاربة إلى بلدانهم الأصلية. ولو أن ويلبيك غير الشخصية الرئيسية في الرواية من مسلم إلى يهودي، لما كان رد الفعل الفرنسي الرسمي والشعبي والإعلامي في المستوى ذاته.
جريمة "شارلي إيبدو" الإرهابية ثمرة لأشجار جرداء نمت في حدائق فرنسا الخلفية، وهي ثمرة سامة لن يذهب مفعولها سريعاً.