جماعة التوك توك المحظورة وأزمة النخب المصرية

25 أكتوبر 2016
+ الخط -
تحدّث مصطفى إمام الذي عرّف نفسه خرّيج التوك توك ثلاث دقائق على قناة الحياة المصرية، فأثار ردود أفعال اتسم أغلبها بالتأييد الشعبي، بينما قابلته نخب الدولة بثلاثية الرفض والتشكيك والتشويه، ووصفوا حديثه بالمشهد السينمائي المصنوع، كما روّجت وسائل إعلام معلومات مغلوطة عنه. وتستدعي حالة الجدل والهلع التي انتابت نخب السلطة التأمل والتحليل. فرض رأي مواطن من الشعب موضوعاً للنقاش العام، ففي يومين شاهده ما يقارب خمسة ملايين مصري في "يوتيوب". تجلس على المقهى فيكون الشاب حديث الجالسين، وفى الشوارع الجانبية يجلس شباب وعمال يشاهدونه بحماسة المشجع أمام مباراة لكرة القدم، يلعب فريقهم ضد فريق منافس.
ضمّن الشاب همومه الشخصية في الهم العام، فقدّم نقداً اجتماعياً وسياسياً حاداً، وأفصح في كلماته المتدفقة والبسيطة واقع مصر، ردّ ببساطةٍ على التزييف، وانتقد المقولات الرائجة عن الإنجازات والمشاريع القومية، ونقل أحاسيس قطاعاتٍ من الشعب بخيبة الأمل والإحباط. داخلياً، شكا بؤس العيش وامتهان الكرامة وغياب السلع وسوء خدمات التعليم والصحة. وخارجياً، أشار إلى امتهان الكرامة المصرية، وشكا من إهانة المصريين من بعض دول الخليج التي تقدم لمصر مساعدات مالية وبترولية. ويرجع جزء من انتشار الفيديو إلى أن المتحدث "مواطن عادي"، ليس عضوا في ائتلاف شبابي، ولا قائداً في تكتل حزبي، أو كاتبا ينتمي لتجمع ثقافي.

ووجه الشاب بحملة تشويه واستنكار تجاوزته، وطاولت مقدم البرنامج المذيع عمرو الليثى الذي أعلن عن وقف برنامجه. روّجت أبواق السلطة أن انتشار الفيديو جاء ضمن سياق تآمري يستهدف امن الوطن واستقراره، على الرغم من أن الشاب لم يرفع شعاراتٍ بإسقاط النظام، وعلى الرغم من أن كثيرين من أهله انتخبوا، مثل مصريين آخرين، عبد الفتاح السيسي رئيساً. ما أقلق السلطة والنخب الموالية لها أن حديث الشاب تماسّ مع بؤس الواقع الاجتماعي، وأن الشاب نفسه ينتمي إلى طبقة اجتماعية تعرف طعم الفقر وقسوته. ليس له ولأمثاله مصلحة في تجميل الواقع. كان شجاعاً ومعبراً عن أحوال ملايين من الشباب المصريين المأزومين من الركود وتضخم الأسعار. لم يقل سوى ما نعرفه حقاً، لكن المكوي بالنار يجيد وصفها، فهناك فارق بين أن تتحدث عن شخص مقهور وأن تكون أنت هذا الشخص، أن تكون جزءاً من واقع اجتماعي بائس وأن تحكى عن المحرومين. قارن بين مصر التى يصوّرها الإعلام "فيينا" بينما هي "بنت عم الصومال".
لا تخفي بعض المعلومات غير الدقيقة التي ذكرها عن أوضاع مصر في بداية القرن العشرين حسن التعبير وصدق الإحساس الذي شهد له المصريون به. أغضب السلطة، فسلطت أعوانها لسلخه، والرد على كلماته، فانتشرت كلماته أكثر. وحين لم ينفع التشويه، أعلن مجلس الوزراء أنه يبحث عن الشاب لبحث مشكلته، لكن مصطفى إمام لم يطلب مساعدة شخصية، بقدر ما أنه نعى بؤس حال الطبقة المقهورة التي ينتمي لها، والوطن المأزوم الذي يعيش فيه.
عاد سائق التوك توك "الخطيب الشعبي" إلى سوهاج، بلده التي هاجر منها بحثاً عن فرص عمل. أراد التخفّي خوفاً من بطش السلطة ومطاردات الإعلام. في صحيفة أحوال الوطن، هناك 30 مليون من الفقراء لا يستطيعون تدبير احتياجاتهم الغذائية الأساسية، ويعيشون تحت خط الفقر فلا ينفقون أكثر من 36 دولارا شهرياً، تجاوزت نسبة الفقراء 60%، وتعيش الطبقة العاملة ظروفاً صعبةً، فلا تكفى دخولها احتياجاتها، ناهيك عن العمالة غير المنتظمة التي تشكل نصف قوة العمل، وتعيش معاناة أكبر.
إذن، لا تنكروا سائق التوك توك، فهو من الذين تذكرهم الإحصائيات الرسمية أرقاماً، ويهمشهم وطنهم، فيتعلمون فصاحة الحديث بين دفات المعاناة. على جانب آخر، تطالب مذيعةٌ بامتلاك بصيصٍ من الأمل، بينما لا يرى المشاهد سوى لمعة خاتمها الألماظ أمام إضاءة كاميرا التصوير التلفزيوني، هي نفسها المذيعة التي جمعت عينةً من نخب السياسيين والإعلاميين، لتحليل أسباب انتشار حديث سائق التوك توك، فتلبّس بعضهم ثوب العالم ببواطن الأمور، الكاشف للغموض والمؤامرة، فمصطفى لا يستحق النقاش أساساً، ولا ينبغي أن يكون محلّ اهتمام الملايين، بينما علل واحد منهم انتشار الفيديو بأنه محض مؤامرة، ونتاج ترويج إعلاني من "العربي الجديد" و"الجزيرة". ولم يسأل هؤلاء لماذا لم يعد الشعب يسمعهم ويروج أحاديثهم، على الرغم من أنهم يمتلكون وسائل الإعلام، ويطلون كل يوم من شاشات التلفزيون.
لم تقارن نخب السلطة، بالطبع، بين منطلقات أحاديث البسطاء المغروسة في الواقع وأحاديثهم المعلقة في الفراغ، المنطلقة بأغلبها من تصورات ومصالح ذاتية وانحيازات لمجموعات المصالح ورجال الأعمال.
تصوّرت السلطة أن التأميم غير المباشر لوسائل الإعلام وإغلاق المجال العام، واستمالة بعض النخب، كافٍ لضبط إيقاع المجتمع ناحية التأييد رقصاً، والإيمان بسياسات السلطة بوصفها ديناً، وبكل مسؤول بوصفه قدّيساً، وبنظرية المؤامرة تأويل واحدٍ أحد. تجاهلت سلطة يوليو ونخبها خرائط المعاناة الاجتماعية، وآثار سياساتها الاقتصادية التقشّفية، وتناست أن الاحتجاج الاجتماعي والسياسي قادرٌ على إبداع مقاومة للظلم والتهميش، لا تحدّها جحافل الأمن وقوانين التظاهر والمطاردات الأمنية. خرجت عشرات الفيديوهات تعبر عن الإحساس بالظلم الاجتماعي، وتحدّث أبطالها عن مظاهر الصراع الطبقي بوصفه واقعاً، لا مجرّد فرضية
أيديولوجية. من في وسعه أن يخفي الصراع الاجتماعي وينكره، وهو حقيقةٌ متجسّدةٌ على أرض الواقع بين ملايين من الشعب المفقر وقلةٍ تحتكر السلطة والثروة؟
بات أداء معظم النخب السلطوية في مصر غير مقبول، وفقد قدرته على الحشد والرقابة وإخضاع الجمهور، ولم يبق في جعبتها لتبرير الفشل سوى نشر الخوف والخلع والترهيب، مستخدمين نظرية المؤامرة. الوعي الزائف الذي بثته نخب السلطة، وطيف واسع من نخبٍ كانت في معسكر المعارضة، لم يعد يقنع أحداً الآن، وهذا يعنى مستقبلاً انفصال هؤلاء عن المجتمع، وتقلص دورهم وإحلال نخبٍ جديدة مكان تلك النخب. ينصرف الجمهور اليوم عن النخب التي لا تمثله، ويبحث عمّن يعبر عنهم. طرأ تغيّر على علاقة الجمهور بالنخب، لم تعد كما كانت مسبقاً علاقة سيطرة وخضوع، مرسلٍ ومتلقٍ، فأخذت، بحكم التطور التكنولوجي أبعاداً تفاعلية أكبر. وهذا يخدم، بالطبع، النخب المنحازة للجمهور. تستطيع النخب الرياضية والثقافية والسياسية والعمالية اليوم أن يصل صوتها إلى خارج قاعات الاجتماعات وساحات التظاهر المحاصرة. يتضامن مع القيادات العمالية التي تُحاصر، وتعاقب على مواقفها المناهضة للفساد، والمطالبة بتحسين ظروف العمل، مثل عمال الترسانة، يتضامن معهم آخرون من خارج مصنعهم. اليوم يمكن أن تكتب مقالاً أو تدلي بتصريح فيرد عليك بتعليق موجز يحدث نقاشاً حياً وجادّاً. تطور التفاعل بين النخب والجمهور يفيد النخب التي تريد لعب دور فاعل ومناهض لمجموعات المصالح والفساد والقمع، ويحاصر النخب التقليدية التي تنحاز للسلطة، أو التي ترهلت وخفت صوتها.
مستقبلاً، وبفعل تعمق الأزمات، لن يستطيع الإعلام تجاهل القضايا الاجتماعية، لأن الأزمة تفرض نفسها، وإن اختلفت زوايا التحليل، ستزيد أيضاً علاقة التفاعل بين الجمهور والإعلام بوصفها علاقةً تبادلية، لا علاقة مرسل ومستقبل، فالناس هي من تصنع الأحداث في لحظات الأزمة.

D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".