لفت تزايد منسوب الاحتجاجات في مدن الجنوب الجزائري وبلداته، على نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة التي جرت يوم الخميس الماضي، أنظار المراقبين، وأثار تساؤلات حول حالة الرفض المتزايد في الجنوب لقرارات المؤسسة الرسمية. فقد شهدت ولايات واليزي وورقلة وبشار والنعامة وتمنراست وأدرار، كبرى ولايات الجنوب، حالة احتقان متواصل، احتجاجاً على ما اعتبره السكان "تزويراً لنتائج الانتخابات"، و"محاولة فرض ممثلين في البلديات خارج إرادتهم الشعبية".
مختلفاً كان المشهد والمآلات هذه المرة في تندوف، وهي مدينة ذات موقع حساس، لاحتضانها قوة عسكرية كبيرة بسبب متاخمتها للحدود بين الجزائر ومنطقة الصحراء الغربية المتنازع عليها بين جبهة البوليساريو والمغرب، واحتضانها لمخيمات اللاجئين الصحراويين. وشهدت المدينة غضباً شعبياً ضد نتائج الانتخابات، وصبّت غضبها للمرة الأولى في تاريخها ضد الجيش. والاحتجاج كان ضد ما اعتبره السكان "تدخل الجيش وقياداته العسكرية في فرض نتيجة الانتخابات البلدية". وعُدّ هذا التطور مؤشراً جدياً على تحولات عميقة في الجنوب، إذ ظلّ لفترة طويلة المنطقة الأكثر استكانة للسلطة، وأكثر المناطق هدوءاً وتفاعلاً مع المشهد السياسي. ونادراً ما شهدت هذه المنطقة حراكاً احتجاجياً ومدنياً، بفعل تحكم السلطة فيها بواسطة مؤسسات عرفية واجتماعية وبالزوايا الدينية، كانت تفرض تمثيلياتها على السكان وتتحدث باسمهم مع السلطة وتتواطأ معها لصالحها. لكن هذه المنطقة تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى منطقة احتجاجات مستمرة تحت عناوين مختلفة.
في هذا السياق، رصد الباحث المتخصص في الحركات الاحتجاجية، نور الدين بكيس، تطوّر مستوى الحراك الاحتجاجي في الجنوب ومنسوبه، معتبراً في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أنه "يتزايد منذ سنوات لينتقل من الاحتجاج السوسيواقتصادي إلى السياسي". وأرجع ذلك إلى "ظهور نخب شبابية محلية تزخر بمستويات جامعية عالية تريد تمرير رسالة للجميع بأن التعاطي حول قضايا الجنوب لن يمر عبر وسطاء من الشمال بل الممثل الوحيد هم أبناء المنطقة".
كما أن السلطة في الجزائر اعتمدت لفترة طويلة على مؤسسات عرفية واجتماعية ودينية، للتحكم في المجتمعات الصغيرة في مدن الجنوب الجزائري، وتسييرها لصالح خيارات السلطة السياسية والاجتماعية، أكثر من اعتمادها على المؤسسات الرسمية ومؤسسات الحكم المحلي، على غرار "أمنوكال الطوارق"، أي عقلاء الطوارق، وهم قادة قبائل الطوارق في مدن الجنوب، فضلاً عن الأعيان، وهم مجموعة من الشخصيات الممثلة للسكان لدى المؤسسات الرسمية ومشايخ الطرق والزوايا الدينية التي داهنت السلطة طويلاً. لكن السنوات الأخيرة شهدت تمرداً اجتماعياً وشبابياً لافتاً على هذه المؤسسات العرفية التي انكسرت سطوتها.
في هذا الإطار، اعتبر الباحث في علم الاجتماع زبير عروس، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "منطقة الجنوب تشهد بالفعل بروز جيل جديد فك الارتباط بقيم الطاعة وحكمة المؤسسات التقليدية الناظمة للحياة المجتمعية في مناطق الجنوب، رافضاً أن تتحدث باسمه، بدليل عجز المؤسسات العرفية نفسها عن وقف أحداث العنف في منطقة غرداية في مارس/ آذار 2014، ووقف احتجاجات الغاز الصخري في عين أميناس في صيف 2015".
ولفت إلى أن "السلطة استغلت لفترة الأعيان والمشايخ والزعامات المحلية والزوايا الدينية، وتعاملت معهم في الشأن المحلي للسكان أكثر من تعاطيها مع مؤسسات الحكم المحلي المنتخبة، لكن انتشار الوعي السياسي والحقوقي، والتمدن إلى درجة ما في مدن الداخل والجنوب، وانتشار التعليم العالي ووسائل التواصل الاجتماعي، وظهور موجة الربيع العربي، جعلت السلطة المطلقة، والهامش الممنوح للأعيان والزوايا والمشايخ يتراجع. أضف إليه عجز تلك الأطراف العرفية عن إثبات قدرتها على مواكبة تطلعات الشباب والمواطن عموماً، الذي نتج عن تخلي السلطة عن الوفاء بالوعود لتلك الهيئات العرفية".
وأضاف أن "ظهور أعيان المؤسسات العرفية والاجتماعية والزوايا الدينية، التي لها مصالح ونفوذ، جعلت من العموم ينتفض من شبه الزواج المصلحي الذي كان يجمع السلطة بتلك الهيئات العرفية". ولفت بلحاج إلى أن "تزوير الانتخابات كان يتم بشكل عادي في مناسبات سابقة، إلا أن نمو الوعي السياسي والمدني في مدن الجنوب وسع من الرفض للواقع. وإذا جازت لنا المقارنة بين حالة الرفض في مدن الشمال مع مدن الجنوب، فلأن مواطن الشمال يستفيد من امتيازات معيشية، بخلاف المواطن في الجنوب الذي يرى أنه مسؤول عن الدفاع عن مؤسسة الحكم المحلي لاكتساب هذه الامتيازات".
واللافت أن بلدات الجنوب في الجزائر عاشت لفترة في عزلة إعلامية وقطيعة مع مدن الشمال، كوصول الصحف إلى مدن الجنوب متأخرة بأيام، والنقص في المراسلين الصحافيين من هذه المدن، ما يضعف التفاعل الاجتماعي مع أية تطورات، أو نقل انشغالات الجنوبيين إلى السلطة المركزية في الشمال، غير أن وسائط التواصل الاجتماعي كسرت هذا الحاجز الزمني، وبات التفاعل الآني مع أوضاع الجنوب أكثر سرعة من ذي قبل. وظهر لك بوضوح في حجم الحشد الشعبي والسياسي والإعلامي للاحتجاجات التي شهدتها منطقة عين أميناس في صيف عام 2015، والنقل المباشر لها على مواقع التواصل الاجتماعي، ما شكّل حالة بارزة لإمكانية تحقيق اختراق كبير لجدار السيطرة الذي كانت تفرضه السلطة.
من جهته، أكد الإعلامي علي بن جدو، العامل في منطقة ورقلة عاصمة النفط، جنوبي الجزائر، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "وسائل التواصل الاجتماعي الطارئة أدت دوراً فاعلاً وكانت من بين العوامل التي ساهمت في نمو الوعي لدى الجنوب. لكني أعتقد أن الاحتجاجات الأخيرة ذات البعد السياسي بشأن رفض نتائج الانتخابات، هي رد فعل عفوي على الإحساس بالظلم والتزوير، وإعلان قطيعة مع صورة المواطن الجنوبي الذي يقبل بأية خيارات تحدد باسمه".
وأشار مراقبون إلى أن "توسع هامش الفضاءات العامة خارج الفضاءات التي كانت تحصرها السلطة على الصعيد الإعلامي، أخرج احتجاجات الجنوب في الفترة الأخيرة إلى البعد الوطني والدولي حتى. وأصبح التفاعل الشعبي والسياسي من المركز مع مطالب وانشغالات الجنوبيين أكثر من أي وقت سابق".
كما أبدى الباحث حمزة هواري اعتقاده بأن "النظام كان يعامل منطقة الجنوب على أنها الهامش في مقابل الشمال الذي دائماً ما مثل المركز. وامتعاض سكان الجنوب من سياسات التهميش ليس وليد اليوم، لكن الجديد هو توفر فضاء عام للاحتجاج منفلت من رقابة السلطة والمتمثل في مواقع التواصل الاجتماعي، بعدما ابتلعت الدولة كل فضاءات التعبير من وسائل إعلام تقليدية وفضاءات النقاش العامة. فمواقع التواصل الاجتماعي بما تطرحه من مضامين فتحت عيون شباب الجنوب على حقيقة التفاوت في التنمية بين الجنوب والشمال، وبالتالي عززت من الشعور العام بضرورة استعادة موقعهم بما يعكس أهمية المنطقة. وأعتقد أن مواقع التواصل الاجتماعي زادت بالفعل من وعي شباب الجنوب، فالجيل الجديد يحاول جاهداً إثبات نفسه ويريد أن يقول إننا لسنا أقل شأناً من الشمال. واحتجاجات العاطلين من العمل في ورقلة ومناهضي الغاز الصخري في عين أميناس، دليل على ذلك. وكلها بدأت بالحشد والتعبئة على الإنترنت وانتقلت إلى الميدان".
وقال الناشط المدني في الحرك المجتمعي الرافض للغاز الصخري، محاد قاسمي، لـ"العربي الجديد"، إن "هناك جيلاً يرفض الواقع المعيشي في كل ولايات الجنوب، وجيلاً جديداً يرفض استمرار المجموعات التي استثمرت في التواطؤ مع السلطة، أو بقاء نفوذ الأشخاص والجهات التي تستخدم أجهزة السلطة. وهذا الجيل عمره يبدأ من 15 سنة، ما يعني أن مستوى الرفض للخيارات الجاهزة وقرارات السلطة، سيزداد خلال الفترة المقبلة أكثر من أي وقت سابق".
وأضاف قاسمي أنه "لا يعرف إلى أي مدى ستقرأ السلطة والمؤسسات السياسية والأمنية هذه الرسائل الاحتجاجية الآتية من منطقة لم تكن تعرف هذا النوع من الحراك المجتمعي والرفض المدني والاحتجاج السياسي، وإلى أي مدى ستراكم هذه الاحتجاجات تجربة إعادة الهيكلة المجتمعية في بلدات الجنوب". لكنه أبدى اعتقاده بأن "السلطة ما زالت تمسك بإمكانية احتواء هذا التمرد على قرار المؤسسة الرسمية". وأضاف أن "تقييم ارتفاع منسوب الحراك الاحتجاجي في الجنوب لا يجب أن يهمل عوائق مهمة قد تكون محددة للمستقبل، كنقص التجربة وعدم وجود تراكم للتجارب الاحتجاجية وقدرة السلطة على التحكم في الهوامش التي تستنزف طاقة الفعل الاحتجاجي. وأحسن دليل على ذلك هو ما آلت إليه غالبية الحركات الاحتجاجية في أكبر المدن الجزائرية والشمال الجزائري عموماً رغم كل ما توفر لها من موارد مادية ومعنوية لم تمنع السلطة من احتوائها على الأقل في سقف محدود".
ومنذ فترة دق باحثون ومراقبون جرس الإنذار بشأن توسع هامش الرفض الجنوبي لقرارات المركز وخيارات الدولة في المركز واستعادة سكان الجنوب لزمام المبادرة في الدفاع عن مطالبهم الاجتماعية، لكن السلطة في الجزائر لا تبدو أقرب إلى فهم الرسائل السياسية الآتية من مدن الجنوب، وما زال تفكيرها متوقفاً عند حدود العصا الأمنية والحل القمعي.