لم يكن مفاجئاً ألا تجد اللغة العربية مكاناً بارزاً في دولة "جنوب السودان" بعد إعلان استقلالها في التاسع من تموز/ يوليو 2011، رغم انتشارها الواسع في هذه الدولة. فتاريخياً ظلت المحاولات الرسمية لفرض اللغة والثقافة العربيتين في جنوب السودان من أهم مغذيات الحرب الأهلية التي استمرت نصف قرن من الزمن.
إلا أن نزوح آلاف الجنوبيين، منتصف الثمانينيات، صوب العاصمة الخرطوم وغيرها من مدن السودان الشمالي، أفرز جيلاً من الكتّاب الذين تلقوا تعليمهم بالعربية، وتفاعلوا مع الثقافة العربية بحيوية أكثر من آبائهم وأجدادهم، لكنهم استطاعوا أيضاً "أن يبلوروا وعياً مبكراً بقضيتهم السياسية وتشابكاتها مع قضية الهوية القومية"، كما يقول الشاعر والصحافي جنوب السوداني، أتيم سايمون، لـ"العربي الجديد".
اليوم، وبعد ثلاثة أعوام من إعلان الدولة الجديدة، ثمة أسئلة عن مستقبل الكتابة باللغة العربية في دولة تولي الإنجليزية الاهتمام الكامل وتجعلها لغة التعليم ودواوين الحكومة.
في حديثه إلى "العربي الجديد"، لا يبدو قرنق توماس، وهو شاعر من جنوب السودان، مطمئناً على مستقبل الكتابة بالعربية في بلده، إذ يرى أن هذا المستقبل "يواجه مخاطر النزق السياسي وضآلة هامش المنابر ومساحات التلقي". وهو ما يوافقه عليه كلٌّ من الشاعر والروائي بوي جون والشاعر والأستاذ الجامعي غابرييل أرنست. فالأول يراهن على طبيعة شعب جنوب السودان "الذي يتقبل كل ما هو وافد ومفيد ويعمل على تبييئه"؛ في حين يأمل الثاني أن يسهم اعتماد مادة اللغة العربية ضمن المواد التعليمية للفصول الأولية في الجنوب، في بقائها، وإن على مستوى ضئيل.
لكن القاص والصحافي السوداني المهتم بشؤون دولة جنوب السودان، محمد عثمان عمر، يبدو أكثر تشاؤماً: "لا أرى مستقبلاً جيداً للغة العربية في جنوب السودان. هناك انحسار تدريجي لعدد الناطقين بها، ونزوع من قادة الجنوب ونخبته نحو ثقافات شرق إفريقيا بدلاً من الثقافات العربية". ورغم انتشار العامية السودانية "العربية" التي يفهمها معظم مواطني دولة جنوب السودان، بحسب عثمان عمر، إلا أنه ينبّه إلى أن "عدداً لا يستهان به من الشباب الآن يتكلّم الإنجليزية فقط".
ويعزز الكاتب إبراهام مدوت باك ما ذهب إليه عثمان عمر: "الجنوبيون يرسلون الآن أبناءهم للدراسة إلى أوغندا وكينيا لاكتساب مهارات اللغة الإنجليزية. وبهذا سينشأ جيل في المدى القريب لا يقرأ أو يكتب أو حتى يتكلّم اللغة العربية، ما سيجعل مستقبلها على المدى البعيد، قاتماً جداً".
وهو عين ما أشارت إليه القاصة إستيلا قايتانو في قولها: "من المحتمل أننا الجيل الأخير الذي يستخدم اللغة العربية في جنوب السودان، وهو احتمال مؤلم"، قبل أن تضيف: "بعد عشرين عاماً، ربما لن يكون هناك مستخدمون لهذه اللغة في الكتابة". وفي السياق ذاته، ينبّه الشاعر سايمون: "رغم أن هذا الجيل من الكتّاب بالعربية لم ينعزل عن محيطه كلياً، في ظرف الاغتراب الثقافي الذي عاشه في السودان الشمالي، لكنه سينقطع عن القارئ المحلي في الجنوب بسبب التحول في اللغة والمناهج بعد الاستقلال".
ويوافقه على ذلك مثيانق شريللو، الناقد ورئيس تحرير صحيفة "المصير" التي تصدر باللغة العربية في جوبا، عاصمة جنوب السودان، والذي يختلف مع قايتانو في تقدير السنوات التي ستمضي قبل اندثار اللغة العربية في الجنوب، إذ يجعلها خمسين عاماً تقريباً، قبل أن يشدّد في حديثه إلى "العربي الجديد" على أن المستقبل سيكون مظلماً حقاً في حال لم يبدأ التأسيس لمعاهد تدرّس العربية، على الأقل في ظل صعوبة إنتاج جنوب السودان ـ بالمعطيات الماثلة ـ كتّاباً يخلفون مَن يكتبون اليوم بالعربية.
ويبدو أن هاجس اندثار العربية في جنوب السودان جعل الكتّاب الذين يستخدمونها يبحثون عن طرق للتحايل على انعزالهم الوشيك عن القراء مستقبلاً. فمنهم من يراهن على مواجهة قصر الأفق المعرفي بحقيقة العملية الإبداعية لدى الساسة، مثل قرنق توماس، ومنهم من ينحو إلى استخدام الإنجليزية إلى جانب العربية من أجل كسر طوق العزلة الذي يشعر به من لا يستخدم الإنجليزية في جنوب السودان، مثل قايتانو.
وينبّه سايمون إلى أن جنوب السودان الآن هي الدولة الوحيدة التي تستطيع الربط ثقافياً بين المحيط العربي في أقصى شمال القارة والمحيط الإفريقي في جنوبها وشرقها وغربها، ما يحتم العمل على المحافظة على حيوية العربية في جنوب السودان. لكن لا يبدو أن هذا التنبيه سيجد آذاناً صاغية، فهل سيكون هذا هو "المساء الأخير للغة العربية في أرض الجنوب"، كما يتساءل الكاتب موسى أجانق؟