تفرض التطورات التي يشهدها السودان، لا سيما الإطاحة بعمر البشير في 11 إبريل/ نيسان الماضي، تحديات كبيرة على العلاقة بين الخرطوم وجوبا، لا سيما لما للبلدين من مصالح وعلاقات مشتركة، فدولة جنوب السودان كانت حتى يوليو/ تموز 2011، جزءاً من الدولة الأم، ولم تخرج منذ استقلالها من جملة مآزق سياسية واقتصادية وأمنية.
عند إطاحة البشير، رحبت حكومة جنوب السودان بتحفّظ شديد بهذا التطور، وبعد أسبوع واحد من ذلك، أرسل الرئيس الجنوبي، سلفاكير ميارديت، مستشاره للشؤون الأمنية، توت قلواك، ومعه رسالة خطية إلى رئيس المجلس العسكري الانتقالي، عبد الفتاح البرهان، مؤكداً له دعم وتأييد الحكومة في جوبا للمجلس العسكري.
كما توجّه سلفاكير إلى أبوظبي، حيث شارك في محاولات إماراتية لمصالحة فصيلين من "الحركة الشعبية - قطاع الشمال" كانا قد انقسما قبل سنوات. وهدفت الإمارات عبر جهودها هذه لتعزيز دعمها وعلاقتها مع المجلس العسكري الانتقالي.
ويعتقد كثيرون أن حكومة جوبا لا تزال تمتلك مفاتيح عديدة في صفوف الحركات المتمردة، خصوصاً في جنوب كردفان والنيل الأزرق، بحجة أن تلك الحركات كانت جزءاً من "الحركة الشعبية" الأم التي قادت انفصال جنوب السودان، لهذا لجأت إليها أبوظبي لمساعدتها في مهمتها التي تأتي ضمن محاولات أخرى للتقرب من المجلس العسكري، وهو ما فسره البعض سعياً من جانبها لجر السودان أكثر نحو المحور السعودي الإماراتي وتدخّلاً في الشؤون الداخلية.
غير أن مساعي توحيد "قطاع الشمال" يبدو أنها باءت بالفشل، فقد أصدر فصيل عبد العزيز الحلو بياناً شديد اللهجة في مواجهة فصيل مالك عقار، بعدما تواردت أنباء عن توجّه وفد يقوده ياسر عرمان، نائب عقار، إلى الخرطوم في مبادرة حسن نيّة، وأكد فصيل الحلو أن ذلك الوفد غير متفق عليه ولا يمثله.
ولفت الخبير الاستراتيجي أمين إسماعيل، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن ارتباط الجنوب بالسودان له ثلاثة أبعاد، أمنية واقتصادية واجتماعية، موضحاً أن الارتباط الأهم لجوبا هو المتعلق بأهمية انسياب نفطها عبر الموانئ السودانية، خصوصاً بعد قرارات اتخذها محمد طاهر إيلا، آخر رئيس وزراء في عهد البشير، قضت بحل المؤسسة السودانية للنفط وتقنين وضع شركات سودانية تعمل داخل الأراضي الجنوبية في إنتاج النفط الجنوبي، مؤكداً أن جوبا تريد الاطمئنان إلى تلك الجوانب، لا سيما أنها تعتمد على تصدير النفط بشكل رئيس في اقتصادها المتهالك أصلاً نتيجة النزاعات.
أما في المحور الاجتماعي، فرأى إسماعيل أن حكومة جوبا قلقة من وجود مئات الآلاف من اللاجئين الجنوبيين في الأراضي السودانية، كان البشير قد أصدر قراراً بمعاملتهم مثل معاملة المواطن السوداني، وتخشى جوبا من أن يتم التراجع عن ذلك من قِبل أي نظام جديد في الخرطوم، ما يعني في النهاية إعادتهم لبلادهم. وأشار إسماعيل إلى أن هدفاً آخر تريد جوبا تحقيقه عبر التواصل مع النظام الجديد في الخرطوم، وهو ضمان فتح المعابر الحدودية التي تدخل عبرها السلع الرئيسية التي يعتمد عليها الجنوب بشكل كبير، مثل الذرة ومواد البناء وغيرها، موضحاً أن زيارة رئيس هيئة الأركان إلى الخرطوم لمدة ثلاثة أيام تؤشر إلى حرص حكومة الجنوب على الاطمئنان للوضع في السودان.
وتوقع الخبير الاستراتيجي أن تسعى حكومة جوبا لتكون محايدة تجاه الصراع السياسي بين المجلس العسكري وتحالف "قوى إعلان الحرية والتغيير"، تحسباً لاحتمال سيطرة أحد الطرفين على السلطة، لذا لا تريد أن تخسر أياً منهما.
من جهتها، رأت الصحافية السودانية المتخصصة في شؤون جنوب السودان، مها التلب، أن حكومة جوبا حسمت أمرها بالتعامل مع المجلس العسكري الانتقالي، سواء بإرسال الوفود أو المشاركة في محاولة تقريب وجهات النظر بين الحركات المسلحة والمجلس العسكري، مشيرة إلى أن ذلك ربما انعكس إيجاباً على جوبا، خصوصاً إذا ما آلت السلطة بشكل أو بآخر للمجلس العسكري، بما يحقق لها مصلحتها بفتح المعابر وتدفق النفط وغيرها من المصالح الأمنية.
واعتبرت التلب، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن تماهي حكومة الجنوب مع المجلس العسكري سيعكس صورة سلبية لها لدى "تحالف الحرية والتغيير"، خصوصاً أن هذه الحكومة منبثقة من حركة تحريرية هي "الحركة الشعبية لتحرير السودان" التي كانت تناضل قبل الانفصال من أجل الحرية والعدالة لجميع السودانيين، وهي القيم ذاتها التي يناضل من أجلها تحالف المعارضة، الذي لن يرضى عن جوبا إذا مضت في تأييد كامل للمجلس العسكري في صراعه مع التحالف. ولفتت إلى أن جوبا حاولت استباق اتخاذ تحالف المعارضة موقفاً سلبياً منها، باجتماع أحد وزراء الحكومة مع التحالف وإيصاله رسالة لتأكيد وقوف جوبا على الحياد بشأن ما يدور في السودان.
من جهة أخرى، ينتاب جنوب السودان قلق من نوع مختلف، فقبل نحو عام رعى البشير مفاوضات مباشرة بين حكومة الجنوب ومتمردي "الحركة الشعبية" التي يتزعمها رياك مشار (موجود في الخرطوم)، تُوجّت بتوصل الطرفين في سبتمبر/ أيلول الماضي، إلى اتفاق سلام في الخرطوم، الذي مهر البشير توقيعه عليه بصفته ضامناً له ومعه الرئيس الأوغندي يوري موسفيني، وبضمانات أخرى من دول منظمة التنمية الحكومية المعروفة بـ"إيغاد". حينها ساد اعتقاد جنوبي بأن قرب "الحركة الشعبية" المتمردة بزعامة مشار من نظام البشير، المتهم سلفاً بإيواء عناصر الحركة وتقديم الدعم اللوجيستي لها، يعزز ضمانات البشير للاتفاق، غير أن انقلاب المشهد السوداني يثير مخاوف من انعكاسات على الاتفاق.
وأوضح باولنج أن اتفاقية السلام نفسها لا تزال تواجه عقبات عديدة في التنفيذ، أبرزها تشكيل الجيش القومي لدولة الجنوب بدمج جيش "الحركة الشعبية" مع الجيش الحكومي، وعدم توفر الموارد المالية لتنفيذ عدد من البنود الواردة في الاتفاقية، خصوصاً ما يلي الترتيبات الأمنية، مع عدم حسم موضوع عدد ولايات جنوب السودان وإعداد الدستور الدائم، مؤكداً أن تنفيذ اتفاقية السلام ستكون فيه مصلحة للسودان وجنوب السودان.