حادثان مروريان في لندن

04 سبتمبر 2018
+ الخط -
وقع حادثان مروريان في الشهر الماضي (أغسطس/ آب) في شوارع لندن. وللمفارقة، كان رد فعل القوات الأمنية البريطانية، منذ اللحظات الأولى للحادثين، متبايناً ومتناقضاً. وقع الأول في 14 أعسطس/ آب، وتورّط فيه، حسب الإعلام، بريطاني من أصل سوداني، ذكرت الصحافة اللندنية، بعد ساعات قليلة من الحادث، أنه رجل أسمر قادم من مدينة برمنغهام، وجدت في حوزته استمارة لطلب تأشيرة دخول كان ينوي تقديمها، فيما يبدو، إلى القسم القنصلي في السفارة السودانية في لندن، ولربما لم يكن ذلك مقنعا في نظر شرطة لندن. اصطدمت سيارة الرجل براكبي درّاجات هوائية، وارتطمت بسور حديدي أمام مبنى البرلمان البريطاني. تصرّفت الشرطة اللندنية بافتراض أن الحادث يشتبه أن يكون "عملاً إرهابياً" صرفاً، ووجهت اتهاماتها للرجل بهذه الصفة.
وقع الحادث المروري الثاني بعد نحو أسبوعين من الأول. قالت الشرطة إنها كانت تطارد السيارة التي كان يقودها رجلٌ بتهوّر، فانحرفت واصطدمت برجلٍ واقفٍ في محطة للحافلات في شارع ريجنت، المكتظ بالمتسوقين عصر ذلك اليوم، وتسبب في جرح أربعة أشخاص. تم اعتقال الرجل، بعد أن أعطبت سيارته، واصطدمت ببعض الحواجز، وأصيب بعض ركابها بجراح، إضافة إلى الرجل الواقف في المحطة، وتم نقلهم فورا إلى المستشفى لتلقي العلاج. التهمة هذه المرّة هي القيادة بتهوّر، والتسبب في الأذى لآخرين. وللمفارقة لم ترد كلمة "الإرهاب" في الحيثيات.
جرى اتهام مرتكب الحادث الأول، ولأول وهلة، بالشروع في "عملٍ إرهابي"، يستهدف قلعة الديمقراطية في قلب لندن، لكن الأمر انتهى إلى تقديم تهمة "الشروع في القتل" بديلاً عن تهمة الشروع في عمل إرهابي. خاض الإعلام البريطاني في سيرة المتهم، وذكر أنه رجل أسمر البشرة من أصل سوداني، وأن آلات التصوير المنصوبة في الطرقات رصدته بتجوّل بسيارته، من دون هدفٍ واضح، في تلك الشوارع التي لا تبعد عن مباني البرلمان الشهير. وأشارت تقارير صحافية لندنية إلى احتمال أن تكون أعطالٌ فنيةٌ قد لحقت بسيارة الرجل، فعجز عن السيطرة على قيادتها، ولم يشغل ذلك بال الشرطة. غطّت القنوات التلفزية اعتقال الرجل، واقتياده مكبّلا في السيارات المصفّحة للشرطة، بما ينبئ عن اشتباهٍ بأن هنالك قناعة لدى الشرطة اللندنية بأن للرجل نوايا خطيرة للغاية، إن لم تكن "إرهابية" خفية.
أما الحادث الثاني فتمّت تغطيته باقتضاب من الإعلام اللندني، ولم تُنشر صور لسائق السيارة، كما لم تفصح الشرطة، في حينه، عن اسمه أو لون بشرته أو سبب قيادته المتهورة سيارته، وما إذا كان من المجروحين جرّاء الحادث، وتم نقله مع الآخرين للعلاج في المستشفى. لم نرَ على الشاشات رجلاً مكبلاً ومتهماً، ولو بالاشتباه، بأن الفعل قد يتصل بنوايا إرهابية.
وهكذا فإن المتورط في الحادث الأول رجلٌ ذو بشرة سمراء، وهو من أصل سوداني، واسمه صالح خاطر، بما يشي بوضوح بديانته الإسلامية. لم تكن شرطة لندن بالغباء الذي لا تدرك معه شيئاً عن خلفية البلد الذي قدم منه صالح هذا، وهو السودان، البلد المثقل بقرارات عقوبات دولية تدينه بالإرهاب، ويحتل موقعا متقدّماً في قائمة الدول الراعية للإرهاب الدولي التي تصدرها الولايات المتحدة الأميركية كل عام.
خلاصة الأمر، منظومة العقوبات التي تُكال ضد دولٍ بعينها باعتبارها "الغنم القاصية" عن القطيع، وإن قُصد من فرضها إحداث تغييرٍ في تركيبة النظم القائمة في تلك البلدان، إلا أنها عقوباتٌ تشوّه الصورة الذهنية بكاملها عن شعوب تلك البلدان. تورّط في الحادث الأول رجلٌ مسلم أصوله من السودان، نظامه موصوفٌ بأنه بلد "الإسلام السياسي"، المُدان برعاية الارهاب الدولي، وفق القوائم الأميركية، فمعاملة مرتكب الحادث ينبغي أن تكون خشنة وقاسية.
أما الحادث الثاني، فلك أن تتأمل أن الشرطة اللندنية هرعت بعده إلى المستشفى، ولم تشهّر بمرتكبه في أجهزة الإعلام، ولم نسمع باسمه، ولا رأى الناس صورته بعد الحادث. ولكن ليس صعباً أن نستنتج أن المتورّط في الحادث الثاني في شارع ريجنت لا يعرف أحدٌ من الناس لون بشرته، ولا دينه، ولا أصوله البعيدة، لكن معاملته كانت ناعمة وسلسة.
معاقبة الأنظمة التي تحسب مارقةً تدفع ثمن مروقها، ويا للأسف، شعوب مغلوب على أمرها.