06 نوفمبر 2024
حاشية في مئوية ناصر
مئة عام عمره لو امتد به العمر، لكن ذلك لم يكن ليحدث، فقد رحل عنا وهو في الثانية والخمسين. قضى ثلثها طالبا ومطلوبا وسط عواصف عاتية، وتقلبات حادّة، كان يتآلف معها ويتوافق تارة، وتارة أخرى يجهز عليها حتى أنهكته عاصفة أيلول الدموية ثم قتلته. وكان حلم، وهو فتى، بمشروع تغيير وإنقاذ لبلاده. وكتب، وهو في الخامسة عشرة من عمره، إلى صديقٍ له يشكو من تدهور أوضاع مصر إلى درجة أنها "تحتاج من يقودها كي تستيقظ من سباتها"، وفي ذهنه فكرة "البطل" الذي تحدثت عنه كتب الأساطير والمغامرات. وعندما كبر وعمل في سلك الجيش أقدم، مع رفاقٍ له، على القيام بمغامرة غير مأمونة العواقب، لكن القدر شاء لها أن تنجح. وكأي تلميذ في مدرسةٍ أولية انتشى بنجاح مغامرته، لكنه احتار كيف يبلور نجاحها، ويحولها إلى "مشروع" للتغيير الشامل، ولم تسعفه قراءاته في إعطاء حلول شافية لمشكلات البلاد، على الرغم من أن الكتب التي كان قرأها في سنوات شبابه، وحتى وصوله إلى قمة السلطة، وقد وثقها فيما بعد المؤرخ السويسري، جورج فوشيه، في كتابه "عبدالناصر وفريقه"، شملت كتابات عسكرية وسياسية مهمة، بينها كتابات ليدل هارت، وبسمارك وحروب نابليون وعبد الرحمن الكواكبي في "أم القرى" و"أهوال الاستبداد" وساطع الحصري وتوفيق الحكيم وسواهم.
كان جمال عبد الناصر، حينئذٍ، يعاني من حيرةٍ فكريةٍ خاصة، بعد أن اكتشف أن بينه وبين رفاقه مسافة شاسعة في الفكر والرؤية. وبتواضع الحائر القلق، جذبته فكرة الحوار مع رجال فكر وسياسة، لكي يصل إلى ما يريد، ويخبرنا محمد حسنين هيكل، وهو اللصيق بناصر والمشايع الأول له من بين كتّاب مرحلته ومؤرخيها، في أحاديثه مع "الجزيرة"، أن ناصر التقى محمود عزمي ولطفي السيد ومحمد صلاح الدين وهيكل نفسه، في جلسات حوار مطولة،
أنضجت خطوطا عريضة للمشروع الذي كان يحلم به، وقد شعر بالغبطة، عندما نقل إليه أن طه حسين يصف حدث 23 يوليو بأنه "ثورة"، في وقت كانت النظرة الشائعة أنه مجرد "انقلاب عسكري"، هدفه إطاحة النظام الملكي والقبض على السلطة.
ومن مجريات الأحداث اللاحقة، نعرف أن واحدةً من نقاط الخلاف بين ناصر ورفاقه هي في نظرتهم إلى أن الوجود البريطاني في مصر هو التحدّي الوحيد الذي عليهم مواجهته، في حين كان ناصر يرى أن مصر تواجه تحدياتٍ أخرى، لا تقل أهمية عنه، منها قضية الأرض والإصلاح الزراعي، وظاهرة الفقر والظلم الاجتماعي، والفساد الإداري، والأمية وبرامج التعليم. وقد أعانته حواراته تلك على بلورة خطوط عريضة لمشروع تغيير ذي أفق عربي، صاغها هيكل لاحقا في كراس أطلق عليه الناشر عنوان "فلسفة الثورة". ومع أن كلمة "فلسفة" حملت شيئا من المبالغة في توصيف الكرّاس، وهو ما أقر به هيكل، إلا أن نشر الكراس فتح الباب أمام أهل الفكر، للإضافة والمراجعة، كما أعطت التجربة العملية الكثير، كي يغتني المشروع الفكري ويتطور، وهي التجربة التي تواصلت عربيا ودوليا على نحوٍ لم تتواصل معه أية تجربة عربية غيرها في العصر الحديث، بما فيها تجربة حزب البعث التي امتدت عقودا في بلدين، لكنها قصرت عن أن تلبي حاجات المشروع القومي الذي طمح إلى تحقيقه الرواد الأول.
وإذ ليس في وسع هذه "الحاشية" أن تلم بكل أطراف المشروع الذي أراده ناصر، إلا أن في وسعها أن تستذكر كيف كانت العروبة تتجسّد في نظر الغرب، قبل ظهور ناصر، في مشهد "فرد عجوز يتمشى في الصحراء معتمدا على عكازه"، وكيف أسقط ناصر هذه الصورة، ليضع العربي الإنسان في مكانه الطبيعي أمام العالم، هو أيضا أعاد إلى مصر عروبتها، وكرّس "فلسطين" قضية مركزية لها، ونظر إلى إسرائيل على أنها التهديد المباشر لمصر والعالم العربي، وأنه لا بد من توحيد الجهد العربي لمواجهته، كما ربط حرية الوطن بتحرّر المواطن، و"الحرية لا تكون إلا إذا تحرّرت الأرزاق، وتحرّرت لقمة العيِش، وشعر كل فرد أنه يعيش في وطن تتكافأ فيه الفرص، ويستطيع المواطن فيه أن يقول ما يريد، من دون أن يكون مهدّدا في رزقه أو في أولاده، أو في مستقبله".
وإذا كان ناصر قد أخطأ هنا، وأخفق هناك، فإن ما حُفظ له فضيلة المجتهد الذي له أجر إن أخطأ، وأجران إن أصاب.
كان جمال عبد الناصر، حينئذٍ، يعاني من حيرةٍ فكريةٍ خاصة، بعد أن اكتشف أن بينه وبين رفاقه مسافة شاسعة في الفكر والرؤية. وبتواضع الحائر القلق، جذبته فكرة الحوار مع رجال فكر وسياسة، لكي يصل إلى ما يريد، ويخبرنا محمد حسنين هيكل، وهو اللصيق بناصر والمشايع الأول له من بين كتّاب مرحلته ومؤرخيها، في أحاديثه مع "الجزيرة"، أن ناصر التقى محمود عزمي ولطفي السيد ومحمد صلاح الدين وهيكل نفسه، في جلسات حوار مطولة،
ومن مجريات الأحداث اللاحقة، نعرف أن واحدةً من نقاط الخلاف بين ناصر ورفاقه هي في نظرتهم إلى أن الوجود البريطاني في مصر هو التحدّي الوحيد الذي عليهم مواجهته، في حين كان ناصر يرى أن مصر تواجه تحدياتٍ أخرى، لا تقل أهمية عنه، منها قضية الأرض والإصلاح الزراعي، وظاهرة الفقر والظلم الاجتماعي، والفساد الإداري، والأمية وبرامج التعليم. وقد أعانته حواراته تلك على بلورة خطوط عريضة لمشروع تغيير ذي أفق عربي، صاغها هيكل لاحقا في كراس أطلق عليه الناشر عنوان "فلسفة الثورة". ومع أن كلمة "فلسفة" حملت شيئا من المبالغة في توصيف الكرّاس، وهو ما أقر به هيكل، إلا أن نشر الكراس فتح الباب أمام أهل الفكر، للإضافة والمراجعة، كما أعطت التجربة العملية الكثير، كي يغتني المشروع الفكري ويتطور، وهي التجربة التي تواصلت عربيا ودوليا على نحوٍ لم تتواصل معه أية تجربة عربية غيرها في العصر الحديث، بما فيها تجربة حزب البعث التي امتدت عقودا في بلدين، لكنها قصرت عن أن تلبي حاجات المشروع القومي الذي طمح إلى تحقيقه الرواد الأول.
وإذ ليس في وسع هذه "الحاشية" أن تلم بكل أطراف المشروع الذي أراده ناصر، إلا أن في وسعها أن تستذكر كيف كانت العروبة تتجسّد في نظر الغرب، قبل ظهور ناصر، في مشهد "فرد عجوز يتمشى في الصحراء معتمدا على عكازه"، وكيف أسقط ناصر هذه الصورة، ليضع العربي الإنسان في مكانه الطبيعي أمام العالم، هو أيضا أعاد إلى مصر عروبتها، وكرّس "فلسطين" قضية مركزية لها، ونظر إلى إسرائيل على أنها التهديد المباشر لمصر والعالم العربي، وأنه لا بد من توحيد الجهد العربي لمواجهته، كما ربط حرية الوطن بتحرّر المواطن، و"الحرية لا تكون إلا إذا تحرّرت الأرزاق، وتحرّرت لقمة العيِش، وشعر كل فرد أنه يعيش في وطن تتكافأ فيه الفرص، ويستطيع المواطن فيه أن يقول ما يريد، من دون أن يكون مهدّدا في رزقه أو في أولاده، أو في مستقبله".
وإذا كان ناصر قد أخطأ هنا، وأخفق هناك، فإن ما حُفظ له فضيلة المجتهد الذي له أجر إن أخطأ، وأجران إن أصاب.