حتى لا يتحول الربيع مشجباً
قال أمير الكويت، الشيخ صباح الجابر الصباح، في كلمته في القمة العربية، أخيراً، "الربيع العربي أدخلنا في حسابات معقدة". وعندما يلقي أيٌّ منا نظرة سريعة على المشهد العربي الراهن، يلاحظ أن المنطقة دخلت فعلاً في حالة من عدم الاستقرار قد تستمر طويلاً. فمعظم الدول العربية وجدت نفسها في مواجهة عواصف شديدة، جديدها ما يجري في اليمن، والذي أدى إلى ضياع الدولة، ونشوء حرب "عاصفة الحزم". السؤال: هل الربيع العربي، إن حصل فعلا، هو المسؤول عن كل هذا الخراب الذي حل في أجزاء مهمة من المنطقة؟
قبل هذا الربيع الذي أثار رعب كثيرين، كان هناك حديث كثير عن أزمة النظام العربي السابق، ولو عدنا إلى ما كان يُذكر لوجدنا إلحاحا على القول إن ذلك النظام فقد مبرراته واستنفد أغراضه. ولهذا كثرت التحديات وتعددت الحروب. كان كل شيء ينبئ بأن البناء الإقليمي سيسقط، وأن زلزالاً سيحل بالعالم العربي، وسيقلب الأوضاع. مع ذلك، استمرت الجهود الرسمية بهدف المحافظة على البناء القديم الآيل للسقوط حتماً.
وجاءت اللحظة الموعودة. لم يفهم بن علي، ما يحدث في سيدي بوزيد، ولماذا انتقل الاحتجاج إلى بقية المدن التونسية. وعندما ظن أنه فهم، كانت صفحة التاريخ قد طويت نهائياً. وتكررت الدهشة وحالة الغباء، عندما وصلت العاصفة إلى مصر وليبيا، حيث لم يدرك مبارك والقذافي أن المستقبل لا يرد، وأن التاريخ لا يمكن إيقافه، وهو ما يسعى إليه علي عبد الله صالح في اليمن، وبشار الأسد في سورية.
ما يحدث، الآن، هو وليد النظام العربي السابق المفلس، وليس ثمرة الربيع العربي الذي لم يكتمل، ولم يُسمح له بأن يثمر ويحقق وعوده، فعندما لا يفكر المستبدون في المرحلة الموالية يورثون للأجيال المقبلة أوضاعا شديدة التعقيد والبؤس. فالتركة التي يخلفونها تكون أشبه بسلسة من الألغام التي تنفجر تباعاً لتزيد من وعورة الطريق. وتركة علي عبد الله صالح ليست هينة. دمر كل شيء جميل في اليمن، ولهذا، عندما قامت الثورة المجهضة هناك، لم يجد اليمنيون الطريق ميسرة لإعادة البناء. وأصبح البلد وكأنه مهجور من شعبه. كل طرف يريد أن يستحوذ عليه، ويبني عليه دولته الافتراضية. طمع تنظيم القاعدة، ولا يزال، في افتكاك اليمن بالقوة. وكذلك قرر الحوثيون، بدعم من حليفهم الذي خلعته الانتفاضة الشعبية، وظنوا أن الفرصة أصبحت متوفرة للتحكم في الشعب اليمني. وظنت إيران أن الأجواء أصبحت مناسبةً، لوضع قدم في اليمن، ضمن استراتيجية تهدف إلى تطويق الخليج. أصبحت كل الاحتمالات ممكنة، بما في ذلك الأكثر عبثية.
لا خلاف حول القول إن الربيع الذي لم يتجاوز، للأسف، حدود تونس، لخبط حسابات الكثيرين، بحكم حجمه وقدومه المفاجئ. لكن، بعد الذي حدث، أصبح واضحاً أن هذه الحسابات المتناقضة، تعكس المصالح المتضاربة لأصحابها. فالذين استشعروا الخطر من التحولات الجارية بسرعة، انخرطوا في ديناميات متعارضة كلياً مع ما تطلعت إليه القوى الجديدة والصاعدة.
كشف "الربيع المأمول" عن التداعيات الخطيرة التي يمكن أن تترتب عن تفكك المنظومات السابقة، في دول لها خصوصيات محددة. وجدت النخب والشعوب نفسها أمام ورشات مفتوحة على المجهول، ولا تملك لها بدائل قادرة على الإقناع والتنفيذ وتحسين الأوضاع، وأن تحقق قدراً من التوافق بين الداخل والخارج.
المؤكد، اليوم، أن العالم العربي لم يعد قابلاً لكي يحافظ على آلياته السياسية والاجتماعية السابقة. حلت الدورة التاريخية، ولم يعد ممكناً إيقاف عقارب الساعة وإعادتها إلى الوراء. لكن الواضح، أيضاً، أن صناعة المستقبل ستكون مؤلمة ومكلفة، وسيكون وليد صراعات تتفاوت في درجة العنف، من دولة إلى أخرى.