18 أكتوبر 2024
حتى محمود عباس لا يُصَدِّقُ نفسه
وأخيراً لَفَظَ الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، الجوهرة، وأعلن التَنَكُّبَ للاتفاقات الموقّعة مع الولايات المتحدة وإسرائيل. "إن منظمة التحرير الفلسطينية، ودولة فلسطين، قد أصبحت اليوم في حل من جميع الاتفاقات والتفاهمات مع الحكومتين الأميركية والإسرائيلية، ومن جميع الالتزامات المترتبة على تلك التفاهمات والاتفاقات، بما فيها الأمنية". هذا ما قاله عباس في اجتماع "القيادة الفلسطينية"، يوم الثلاثاء الماضي في رام الله، رداً على نية إسرائيل، بمباركة أميركية، ضم ما يقارب من 30% من أراضي الضفة الغربية المحتلة. وأضاف عباس: "على سلطة الاحتلال الإسرائيلي ابتداء من الآن، أن تتحمّل جميع المسؤوليات والالتزامات أمام المجتمع الدولي كقوة احتلال في أرض دولة فلسطين المحتلة، وبكل ما يترتب على ذلك من آثار وتبعات وتداعيات". المشكلة، لا إسرائيل تخشى ذلك، ولا الولايات المتحدة تأخذه على محمل الجدِّ، ولا حتى الفلسطينيون يصدّقونه، بل أزعم أن عباس نفسه لا يعني تهديده هذا، فهو يعلم تداعيات ذلك عليه، شخصياً، وعلى السلطة الفلسطينية.
ما سبق ليس إلقاء للكلام على عواهنه، ولا هو من باب التبخيس من أجل التبخيس، ولا هو من باب البناء على تجارب وتهديدات سابقة فحسب. وفي ما يلي دلائل تعضد هذا التقويم، والذي أتمنى، كما كتبت في مقالي "النكبة وشيخوخة القيادة الفلسطينية" في "العربي الجديد" (15/ 5/ 2020)، أن أكون مخطئاً فيه.
على صعيد المعطيات، لم تكد كلمات الرئيس تتبخّر في الهواء، حتى كان مساعدوه، السياسيون
والأمنيون، يؤكّدون للصحافة الإسرائيلية أن تصريحاته تهدف إلى ممارسة ضغط على الحكومتين، الإسرائيلية والأميركية، للعدول عن قرار ضم الأغوار ومناطق في الضفة الغربية، المتوقع إطلاق إجراءاته في يوليو/تموز المقبل. كما أنه أراد بتلك التصريحات دفع أطراف دولية أخرى، وتحديداً الاتحاد الأوروبي، إلى أخذ مواقف أشدّ حزماً من مجرّد التعبير عن الرفض والاستنكار، في محاولة لثني إسرائيل عن اتخاذ خطوات أحادية في الضفة الغربية. مثلاً، نقل تقرير لصحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية، أول من أمس الأربعاء، عن مسؤولين فلسطينيين هذا التفسير، وقالوا إن عباس لم يقصد الوصول إلى إلغاء الاتفاقات والتفاهمات القائمة. المفارقة هنا أنهم يقرّون للصحيفة نفسها بأن الرئيس لا يملك أوراقاً قوية تمكّنه من اللعب مع إسرائيل والولايات المتحدة، وبأن تهديداته السابقة لم تمنع واشنطن من الاعتراف بالقدس عاصمة للدولة العبرية، ولا من نقل السفارة إليها، ومن ثمَّ لا يوجد ما يدفع إلى الاعتقاد أن تهديداته الحالية ستمنع الحكومة الإسرائيلية من المضي في قرار الضم المزمع. وحسب أحد المسؤولين الفلسطينيين الذي تحدث إلى الصحيفة: "لن نتخذ أي إجراءاتٍ حقيقية، قبل أن تعلن الحكومة الإسرائيلية رسميًا ضم أجزاء من الضفة الغربية"! أما الأدهى من ذلك فهو تصريح مسؤول أمني فلسطيني، وصفته الصحيفة بـ"البارز"، أنه ليس على علم بأي تعليمات من القيادة الفلسطينية لوقف التنسيق الأمني مع إسرائيل.
الأمر نفسه أكدته تصريحات لمسؤولين فلسطينيين آخرين لصحيفة هآرتس الإسرائيلية، شدّدوا على أن "التنسيق الأمني مع إسرائيل مستمر". وحسب مسؤول فلسطيني، "الرئيس ينوي وقف التنسيق ولكنه لم يغلق الباب"، وأفاد بأن قوات الأمن الفلسطينية قد تخفض التعامل مع نظيرتها الإسرائيلية، ولكن ليس من الممكن الحديث بعد عن وقف كليٍّ له. ويعترف هذا المسؤول، بما هو معروفٌ للجميع، بأنه حتى لو أرادت السلطة الفلسطينية وقف التنسيق الأمني مع إسرائيل فإنها لن تتمكّن من ذلك، إذ أن استمرارية عمل السلطة، بما في ذلك علاقاتها مع دول أخرى، يتطلب التنسيق مع الدولة العبرية، والمرور عبرها.
ما سبق يقود إلى معطى ثانٍ موضوعي. في خطابه، كان عباس واضحاً لناحية أنه لا يتحدّث عن حلِّ السلطة الفلسطينية، بقدر ما أنه يتحدّث عن الانسحاب من التفاهمات والاتفاقات مع الولايات المتحدة وإسرائيل. وبالمناسبة، ليس كلها، هذا إن عني تهديداته فعلاً. "نجدد التزامنا بحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على أساس حل الدولتين، مع استعدادنا للقبول بتواجد طرف ثالث على الحدود بيننا، على أن تجرى المفاوضات لتحقيق ذلك تحت رعاية دولية متعددة، وعبر مؤتمر
دولي للسلام، وفق الشرعية الدولية". هذا ما قاله عباس في الخطاب نفسه. وأضاف: "نطالب من لم يعترف بدولة فلسطين منها (دول العالم) حتى الآن، بالإسراع بالاعتراف بها لحماية السلام والشرعية الدولية والقانون الدولي، ولإنفاذ قرارات مجلس الأمن الخاصة بتوفير الحماية الدولية لشعبنا في دولته المحتلة". مشدّداً: "نقرر اليوم استكمال التوقيع على طلبات انضمام دولة فلسطين إلى المنظمات والمعاهدات الدولية التي لم ننضم إليها حتى الآن". هذه ليست تصريحات رجل يريد قلب الطاولة على رؤوس خصومه، بقدر ما أنها محاولة لتغيير قواعد لعبة ساهم هو نفسه في فرضها، في سياق من تواطؤ انعدام الأهلية والكفاءة القيادية والتفاوضية على مدى العقود الثلاثة الماضية.
ولأن ما عناه عباس ليس حلَّ السلطة، فإنه هو أو غيره، ممن سيرثه على رأس الهرم القيادي الرسمي الفلسطيني، سيجد نفسه أسير التصميم الوظيفي الذي على أساسه قامت "سلطة وطنية فلسطينية" في أحشاء احتلال قائم. السلطة الفلسطينية، ما دامت قائمة، لا يمكنها منطقياً ولا موضوعيّاً أن تنفطم عن الثدي الإسرائيلي. هذه هي الحقيقة المُرَّة. لا يمكن للسلطة أن توفر المال ولا الغذاء ولا الماء ولا الكهرباء ولا حتى الحصول على المساعدات الدولية، أو التحرّك داخل الضفة الغربية وإليها، دع عنك نحو قطاع غزة والعالم الخارجي، من دون المرور عبر إسرائيل. أضف إلى ذلك أن نسبة كبيرة من اليد العاملة الفلسطينية في الضفة الغربية تعتاش على وظائف في الدولة العبرية، بمعنى أن مصادر أرزاقهم مرتبطة بهذه الاتفاقات والتفاهمات. أما ثالثة الأثافي فتتمثل في أن اتفاقية أوسلو لم تفسح المجال لتأسيس سلطة وظيفية فحسب، بل وكذلك طبقة حاكمة وظيفية، يرتبط وجودها أو عدمه بوجود السلطة المرتبطة بالاحتلال. ومن ثمَّ، فإنه حتى لو أصر عباس على تغيير قواعد اللعبة التي ساهم هو نفسه في إرسائها، أو قَلْبِ الطاولة على رؤوس الجميع، فإنه سيجد من داخل السلطة نفسها "أبو مازن" آخر يتمرّد عليه، كما تمرّد هو يوماً على الرئيس الراحل، ياسر عرفات، عندما حاول أن يغير قواعد اللعبة مع إسرائيل والولايات المتحدة منذ أواخر عام 2000، وحتى استشهاده أواخر عام 2004. والحقيقة المُرَّة الثانية أن في السلطة الفلسطينية عشرات ومئات من المستويات الأمنية والسياسية الطامحة بوراثة رجلٍ كهل، يعيش حالة تخبط وتوهان كامل.
لا يعني ما سبق أني أدعو إلى حلِّ السلطة الفلسطينية، ولا إلى إطلاق انتفاضة شاملة، ولا يعني
أني ضد ذلك، بقدر ما أن هذه دعوة، تكرّرت مرات ومرات، إلى إطلاق حوار وطني شامل، لا يستثني ساحةً ولا طرفاً، يعيد النظر في خيارات الشعب الفلسطيني وكيفية إعادة إطلاق مشروعنا الوطني. من دون إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية، وجعلها ممثلة بحق للشعب بكل فصائله وقواه وكفاءاته وساحات وجوده، لن يكون في وسعنا البحث عن مخرج من معضلة ساهم بعض ممن بيننا في حفرها عقودا طويلة. قد نجد أنفسنا، في حال عقد ذلك المؤتمر الوطني، مضطرين للترفع عن خطايا الماضي التي ارتكبها هؤلاء، وليس دروسها. لكن ثمَّة مسألة لا يمكن لنا تجاوزها، أن السلطة الفلسطينية لا يمكن أن تكون محتكرة للتمثيل الفلسطيني، فلا هي نجحت في هذا، ولا هي قادرة على ذلك أصلاً. وينبغي أن نقرَّ بأن هيكلية السلطة تجعلها أكثر قابلية كي تكون من أدوات الاحتلال، من أن تكون لبنةً في بنيان الحرية الذي نسعى إليه. لقد أنتجت السلطة طبقةً لا يمكن لها أن تزدهر ويكون لها دور بعيداً عن الارتباط بالاحتلال الإسرائيلي، وكل الخوف اليوم أن تكون قد نجحت في إجهاض قبس الحرية في نفوس فلسطينيين كثيرين سنوات مقبلة.
باختصار، يمكن لعباس أن يهدّد كما يشاء، ولكن هامش مناورته ضئيل جداً، حتى وإن صدق، وهو لا يعطينا سبباً لتصديقه، خصوصاً وهو يشير، في الخطاب نفسه، إلى بقاء "التزامنا الثابت بمكافحة الإرهاب العالمي.. نحن ضد الإرهاب العالمي، أيّاً كان شكله أو مصدره"، بمعنى بقاء التنسيقين الأمنيين مع الولايات المتحدة وإسرائيل. ولعل في تأكيد مسؤولين فلسطينيين حضروا اجتماع "القيادة" في رام الله أنهم منعوا، وهدّدوا بالطرد، إذا ما سألوا عباس عن ما إذا ما كان ثمَّة آلية أو جدول زمني لتنفيذ تهديداته، تلخيصا للمسألة. هم أنفسهم لا يصدّقونه. ولا أظنه يصدّق نفسه. ومرة أخرى، أتمنى أن أكون مخطئاً.
على صعيد المعطيات، لم تكد كلمات الرئيس تتبخّر في الهواء، حتى كان مساعدوه، السياسيون
الأمر نفسه أكدته تصريحات لمسؤولين فلسطينيين آخرين لصحيفة هآرتس الإسرائيلية، شدّدوا على أن "التنسيق الأمني مع إسرائيل مستمر". وحسب مسؤول فلسطيني، "الرئيس ينوي وقف التنسيق ولكنه لم يغلق الباب"، وأفاد بأن قوات الأمن الفلسطينية قد تخفض التعامل مع نظيرتها الإسرائيلية، ولكن ليس من الممكن الحديث بعد عن وقف كليٍّ له. ويعترف هذا المسؤول، بما هو معروفٌ للجميع، بأنه حتى لو أرادت السلطة الفلسطينية وقف التنسيق الأمني مع إسرائيل فإنها لن تتمكّن من ذلك، إذ أن استمرارية عمل السلطة، بما في ذلك علاقاتها مع دول أخرى، يتطلب التنسيق مع الدولة العبرية، والمرور عبرها.
ما سبق يقود إلى معطى ثانٍ موضوعي. في خطابه، كان عباس واضحاً لناحية أنه لا يتحدّث عن حلِّ السلطة الفلسطينية، بقدر ما أنه يتحدّث عن الانسحاب من التفاهمات والاتفاقات مع الولايات المتحدة وإسرائيل. وبالمناسبة، ليس كلها، هذا إن عني تهديداته فعلاً. "نجدد التزامنا بحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على أساس حل الدولتين، مع استعدادنا للقبول بتواجد طرف ثالث على الحدود بيننا، على أن تجرى المفاوضات لتحقيق ذلك تحت رعاية دولية متعددة، وعبر مؤتمر
ولأن ما عناه عباس ليس حلَّ السلطة، فإنه هو أو غيره، ممن سيرثه على رأس الهرم القيادي الرسمي الفلسطيني، سيجد نفسه أسير التصميم الوظيفي الذي على أساسه قامت "سلطة وطنية فلسطينية" في أحشاء احتلال قائم. السلطة الفلسطينية، ما دامت قائمة، لا يمكنها منطقياً ولا موضوعيّاً أن تنفطم عن الثدي الإسرائيلي. هذه هي الحقيقة المُرَّة. لا يمكن للسلطة أن توفر المال ولا الغذاء ولا الماء ولا الكهرباء ولا حتى الحصول على المساعدات الدولية، أو التحرّك داخل الضفة الغربية وإليها، دع عنك نحو قطاع غزة والعالم الخارجي، من دون المرور عبر إسرائيل. أضف إلى ذلك أن نسبة كبيرة من اليد العاملة الفلسطينية في الضفة الغربية تعتاش على وظائف في الدولة العبرية، بمعنى أن مصادر أرزاقهم مرتبطة بهذه الاتفاقات والتفاهمات. أما ثالثة الأثافي فتتمثل في أن اتفاقية أوسلو لم تفسح المجال لتأسيس سلطة وظيفية فحسب، بل وكذلك طبقة حاكمة وظيفية، يرتبط وجودها أو عدمه بوجود السلطة المرتبطة بالاحتلال. ومن ثمَّ، فإنه حتى لو أصر عباس على تغيير قواعد اللعبة التي ساهم هو نفسه في إرسائها، أو قَلْبِ الطاولة على رؤوس الجميع، فإنه سيجد من داخل السلطة نفسها "أبو مازن" آخر يتمرّد عليه، كما تمرّد هو يوماً على الرئيس الراحل، ياسر عرفات، عندما حاول أن يغير قواعد اللعبة مع إسرائيل والولايات المتحدة منذ أواخر عام 2000، وحتى استشهاده أواخر عام 2004. والحقيقة المُرَّة الثانية أن في السلطة الفلسطينية عشرات ومئات من المستويات الأمنية والسياسية الطامحة بوراثة رجلٍ كهل، يعيش حالة تخبط وتوهان كامل.
لا يعني ما سبق أني أدعو إلى حلِّ السلطة الفلسطينية، ولا إلى إطلاق انتفاضة شاملة، ولا يعني
باختصار، يمكن لعباس أن يهدّد كما يشاء، ولكن هامش مناورته ضئيل جداً، حتى وإن صدق، وهو لا يعطينا سبباً لتصديقه، خصوصاً وهو يشير، في الخطاب نفسه، إلى بقاء "التزامنا الثابت بمكافحة الإرهاب العالمي.. نحن ضد الإرهاب العالمي، أيّاً كان شكله أو مصدره"، بمعنى بقاء التنسيقين الأمنيين مع الولايات المتحدة وإسرائيل. ولعل في تأكيد مسؤولين فلسطينيين حضروا اجتماع "القيادة" في رام الله أنهم منعوا، وهدّدوا بالطرد، إذا ما سألوا عباس عن ما إذا ما كان ثمَّة آلية أو جدول زمني لتنفيذ تهديداته، تلخيصا للمسألة. هم أنفسهم لا يصدّقونه. ولا أظنه يصدّق نفسه. ومرة أخرى، أتمنى أن أكون مخطئاً.