30 ديسمبر 2021
حدث ذات ليلة كبيرة!
نظر رئيس التحرير إلى الصور التي عدنا بها من مولد السيدة زينب، وقال بطريقته الفقيعة في السخرية: "أمّال فين البنات القمرات اللي زي الشربات حلوين مش عارف ليه قولوا هيه".
كانت تلك واحدة من الفرص التي تبدو سانحة وواجبة، لكي أتخلى عن مراعاة أكل عيشي وأسعى لقطعه فوراً، فأخبر رئيس تحرير صحيفتنا البائسة برأيي الحقيقي فيه وفي اليوم الذي شخّ فيه عليّ الزمن فعملت تحت رئاسته، ثم أستقيل لأسباب عديدة من أوجهها، أنني لا يمكن أن أعمل تحت رئاسة شخص خال من أي انفعالات أو عواطف أو مظاهر إنسانية، لدرجة أنه لم يضبط متلبساً بإطلاق ريح أو تكريعة أو حتى شخرة خجولة، كسائر البشر الذين تضطرهم الظروف للعمل ساعات طويلة في أماكن مغلقة سيئة التهوية لا تخلو حماماتها بسرعة، وكان مما يؤكد اعتقادنا بلا آدميته أننا لم نره يعرق أبداً حتى في عز أغسطس، وإذا ظننت أنني ناقص الأهلية فاقد العقل، لأنني أمقت شخصاً لأنه لا يطلق ريحاً ولا يعرق ولا يتكرّع، فدعني أصارحك أن كل ما قلته آنفاً لم يكن سوى مجرد تلكيكة لكراهيته، بعد أن سمعنا عن "الرقم" المهول الذي يحصل عليه كل شهر مقابل إدارته البضينة لسفينة صحيفتنا الغارقة، ولعله يهمك أن تضيف إلى معلوماتك أنني كان قد سبق لي كراهية رؤساء تحرير كانوا يتكرعون ويعرقون ويشخرون ويطلقون من الروائح ما لا يقل نتانة عما كانوا يكتبونه.
لكنني مع ذلك كله، لم أبادر لإعلان استقالتي في تلك اللحظة الفارقة، لأنني لم أكن في الأصل معيناً في الصحيفة التي كانت مثلنا جميعاً ترقد على كف عفريت جربان، كلما هرش أصبحت أرزاقنا مهددة، فضلاً عن أنني كنت ولا أخفيك سراً، قد شعرت بالصدمة مثل رئيس تحريرنا "الجلمودي" الذي يتخفى في جلد آدمي، لأن مستوى الجمال في تلك الليلة الكبيرة التي قضيناها في رحاب أم العواجز ورئيسة الديوان ستنا زينب عليها السلام، بدا لي ولزميلي المصور، بعيداً بالفعل عن كافة التفسيرات البصرية الممكنة لكلمتي (القمرات) و(الشربات) اللتين اختارهما أبونا صلاح جاهين لوصف بنات المولد، بالطبع لم أكن أنتظر أن أرى ميرفت أمين واقفة تتقصّع على ماكينة غزل البنات، أو سهير رمزي وهي سارحة بحمص وحلاوة وجلابية محزّقة مشقوقة الجنبين، أو شويكار وهي تفرد ساقيها البديعتين حول نصبة للكوارع والسمين، لكن ما رأيناه حولنا في تلك الليلة الكبيرة، كان للأسف وعلى عكس ليال كبيرة سابقة، معرضاً مفتوحاً لآثار سوء التغذية والإرهاق الدائم والقلي بزيت العربيات وماكياج مصانع بير السلم.
لكنني "الآن أتكلم"، وبعد كل هذه السنين التي مضت على تلك الليلة، وبعد أن تخلصت من تفاهات السن المبكرة، واكتسبت تفاهات جديدة، فألوم أمامكم وأمام محكمة التاريخ نفسي وزميلي المصور، على امتلاكنا تصوراً ضيقاً ووضيعاً للجمال، كنا نستمده كسائر أبناء جيلنا والأجيال التي تليه، من مقاييس جمال نجمات السينما المصرية والأمريكية وفتيات أغلفة مجلات الأزياء، وهو تصور لا يتناسق أصلاً مع حالة وجوهنا وأجسادنا نحن، التي هي أبعد ما يكون عن مفاهيم الجمال والرشاقة كما تروج لها السينما ومجلات الأزياء، ومع ذلك، ولكي لا أفرط في لوم نفسي وزميلي رغبة في التطهر، دعوني أقرر أننا حتى لو كنا نمتلك وقتها تصوراً أكثر إنسانية ورحابة للجمال، لما كان ذلك قد ساعدنا على إنجاز مهمتنا الصحفية البلهاء، التي طلب فيها رئيس التحرير منا أن نترجم أوبريت الليلة الكبيرة إلى صور تحاول ما استطاعت أن تقارب فتنة ما كتبه صلاح جاهين، ثم أعلق عليها بكتابة نثرية تقارن ما كتبه جاهين في أوبريته الأشهر، بما شاهدناه في تلك الليلة من ليالي عام 1998.
لم تلق كتابتي التي التزمت بحدود المهمة، مصيراً أفضل من صور زميلي، حيث انهال عليها رئيس التحرير تريقة وشخرمة، بادئا بفقرة كنت قد تحدثت فيها عن ظاهرة قلة عدد الفتيات والسيدات الحاضرات لتلك الليلة الكبيرة، وهو ما فسّرته بـ "سطوة الرهبة المعنوية لأصابع بعض رواد المولد، التي باتت تبعد الكثيرات عنه في السنوات الأخيرة"، فقرأ بسلامته العبارة متلمظاً، ثم قال لي: "يعني القارئ المفروض يفهم كلامك عن الصوابع ده إزاي"، فقلت كاظماً غيظي: "يعني لو راح المولد مع حد من أهل بيته يمكن ياخدوا لهم صباعين فيفهم"، وإذا استغربت سؤاله وردي، فعليك أن تلاحظ أننا لم نكن يومها قد شهدنا الزمن الذي يتحول فيه التحرش الجماعي إلى ظاهرة مألوفة ومترقبة في الأعياد والمناسبات الدينية والوطنية، فقد كانت حادثة فتاة العتبة التي وقعت قبل سنوات، لا تزال تُعامل كواحدة من علامات يوم القيامة.
يومها، لم يفهم رئيس التحرير القادم من الخليج بعد غربة سنوات، لماذا لم نجد أنا وزميلي في مولد السيدة زينب، لا البنات القمرات ولا شجيع السيما أبو شنب بريمة ولا الريس حنتيره ولا البلياتشو ونتشُه، ومع أنه لم يوجه لنا اتهامات صريحة بالتقصير في العمل، لكنه تساءل بنبرة غير مريحة عما إذا كنا قد طفنا على المولد بأكمله، أم أننا فقط قررنا أن نراه من أطرافه بسبب الزحام، وفي حين انبرى زميلي المصور ليدفع عن نفسه اتهامات "الكروتة والطلسقة"، قررت أن أسأل رئيس التحرير عن آخر مرة ذهب فيها إلى مولد السيدة أوغيره من الموالد، فقال بهدوء يفقع خصية الحجر، إنه بعد مشاهدته لفيلم (مولد يا دنيا) في نهاية السبعينات، لم يشعر بفضل المخرج حسين كمال أنه بحاجة لزيارة المولد فعلياً، لنقضي الوقت الذي تلا إجابته، في محاولة إقناعه أن ما صدر عن حنجرة زميلي المصور كان كحة ناشفة وليس شخرة، مع أنه كان يعرف جيداً أنها شخرة، فهو إن لم يكن قد تفوه بمثلها، كان حتماً قد سمعها كأي مواطن يعيش على أرضنا الخضراء.
قرر رئيس التحرير إما رهبة من سماع شخرة تالية أو توفيرا للوقت، أن يقوم بإلغاء فكرة المطابقة بين الأوبريت الجاهيني وصور الليلة الكبيرة الفعلية، ليقرر نشر بعض من صور زميلي، خصوصا تلك التي انبطح من أجلها على الأرض، ليصنع كادرا متعدد الأبعاد والألوان والدلالات، بصحبة مقتطفات من كتابتي التي قرر أن يحذف الكثير من مقاطعها التي ستجرح شعور القراء، وكنت قد قررت أن أتقبل ذلك عملاً بقول الشاعر: "عدّي يا ليلة، عدّي يا ليلة"، لولا أنه زوّدها على الآخر حين تهكم على إشارتي إلى مطعم الرفاعي، الذي جلس صلاح جاهين عليه ليشحن بطارية إبداعه بأكلة موزة وكباب معتبرة، قبل أن يجلس على قهوة في ميدان السيدة، ليكتب أوبريته العظيم الذي صار لسنين النشيد الرسمي لأطفال مصر، ملمحاً إلى أن تلك الإشارة ليست سوى "إعلان كان ينبغي لولا تسامحه أن يكون مدفوع الأجر"، وكان تعليقه الواطئ ذاك هو القشة التي قصمت ظهر بعير الصبر، فجعلتني أطلب منه سحب موضوعي على الفور، لأذهب بما كتبته وبصور زميلي إلى صحيفة تعرف "قيمة الرجال الذي لا يبيعون شرفهم المهني بكباب الدنيا وكفتتها".
ولأنني لم أجد وقتها صحيفة بتلك المواصفات، فقد ذهبت صور زميلي أدراج العِزال من شقة إلى أخرى بضم الألف، ومن صحيفة إلى أخرى بفتح الألف، ولعله إن قرأ كلامي الآن، يدرك أن ذلك الضياع كان في مصلحته تماماً، لأنها كانت صورا شديدة البشاعة والقبح، وأن قبحها لم يكن "قبحاً فنياً له جماله الآسر الذي لا يدركه إلا الذين لم تألف عيونهم القبح العادي"، كما قال له زميلنا محرر صفحة الثقافة، الذي اعترف لي أنه قال له ذلك لأنه كان يضمر أن يقترض منه عشرين جنيها، تماما كما أعترف لك الآن أن موضوعي نفسه كان يمتلئ ببعض الفقرات الإنشائية البلهاء، وهو ما جعلني أعيد كتابته، ليجد طريقه إلى النور من جديد، فتعيش معي كما أتمنى أجواء تلك الليلة الكبيرة كما شهدتها:
"في شادر كبير لتجار سوق السيدة زينب جلست امرأة ممتلئة داكنة الملامح والنوايا، على كرسي متهالك في يسار المنصة الخشبية، تنتظر بزهق انتهاء من تصورتُ أنه "دكرها" من ضرب السلامات المربعة التي كان يمليها عليه رجل ضخم الجثة مهيب الطلعة: "إحنا بنحيي كل مدابغ مصر القديمة.. مصر العظيمة.. مصر بلدنا.. بلد أبويا وجد جدي.. وأحلى سلام للحاج البرنس بتاعنا كلنا.. احنا اخترناه وكلنا وراه.. البرنس مالناش غيره.. مالناش غيره"، والمعلم الذي كان يقوم بتلقين السلامات على "فكهاني البُقّ" الذي يجوّدها بالمط والتنغيم، سِخِن فجأة ورأى أن الحالة لا تقتضي أن تصل مشاعره عبر وسيط، فخطف "الحديدة" من "بُق النوبتشي"، وأخذ يصرخ في الميكروفون بصوت متهدج وجسد منتفض: "البرنس عمنا كلنا.. ما يزعلش مننا.. والست أمنا.. وكلنا محاسيبها.. وعايزين نخش في الموضوع.. اللي ما يعرفش البرنس وما يعرفش الحاجة علية الديب يبقى راجل حمار وابن مرة وسخة.. واسكت يا لساني.. اسكت يا لساني.. عشان احنا في حمى السيدة.. ومش عايز أشتم بالأب والأم.. ولا عايز أسب الدين.. وسمّعني عظيمة يا مصر.. مصر حرة والسيدة زينب حرة وكل صعايدة الدنيا منورين عندنا".
نزع النوبتشي الميكروفون من خاطفه المهتاج بالعافية، في حين تولى ثلاثة رجال غلاظ شداد احتضان المعلم وتهدئته، ليتضح لي أن السيدة الممتلئة التي كانت تجلس على الكرسي منتظرة بزهق، لم تكن "تبعه" أصلاً، بل كانت المطربة التي يفترض بها أن تبدأ وصلة غنائية جديدة، ولأنها كانت متضايقة جدا من السياق بأكمله، أو "دابّاها جامد" قبل بدء الغناء، فأنا لم أعد أذكر مما غنته بصوت زاحف "مخنِفّ" سوى تكرارها المنغم لعبارة "منك لله ياللي تخون العيش والملح"، التي بدا لي أنها رسالة موجهة إلى بلكونة قريبة، أكثر من كونها صورة شعرية تستحسن تكرارها.
في سرادق مجاور، علا صوت مطرب عجوز صادحاً بغناء حزايني الكلام فرايحي الإيقاع، في حين امتلأت الخشبة عن بكرة أمها، بشباب في سن الضياع يرقصون بالمطاوي والسنج، على خلفية تكرار المطرب العجوز لأحد أهم الوصايا العشر لدى عموم المصريين: "لا تخون أخوك اللي أكل معاك في طبق واحد"، والرجل الكُبّارة كان يبدو عليه أنه قرفان جداً من "السيتويشن" بأكمله، حتى أنه قطع الغناء فجأة ليحذر من انهيار الخشبة باللي فيها، وحين أثارت ملاحظته استياء الراقصين، خطف نوبتشي السرادق منه الميكروفون، ليحيي بعزم ما فيه: "المعلم البرنس برنس مصر الأول وصبيان المعلم البرنس أجدع معلمين لأجدع معلم"، ليبدو لي أن المعلم البرنس متحمس جدا للسيدة زينب وليلتها الكبيرة، لدرجة أنه صرف أموالاً كثيرة على سرادقين كبيرين، لا يبعدان كثيرا عن بعضهما، ولعل له في المولد سرادقات أخرى لم أحط بها خُبراً.
كل من سألتهم عن كُنه المعلم البرنس وماهيته، قابلوا أسئلتي للأسف بعدائية شديدة، لم أفهم سرها، إلا حين قال لي على انفراد شخص بدا عليما ببواطن الأمور، أنه "أكبر تاجر مخدرات في بر مصر تِمّا"، في حين قال صديق له إن هذه فرية حقيرة، لأن المعلم البرنس "أكبر تاجر أدوات كهربائية في بر مصر تمّا"، في حين رأى صديق ثالث لهما بدا لي أكثر علما وإحاطة، أن المعلومتين صحيحتين تماماً ولا تنفي إحداهما الأخرى، لكن المعلومة التي بدت لي أصح وأدق بعد كل هذا الجدل، هي التي أطلقها نوبتشي السرادق المجاور: "اللي يقول مصر ما فيهاش فلوس يبقى راجل حمار".
في ركن بعيد عن السرادقات الصاخبة، دارت مناقشة ثرية بين زبون وتاجر عرائس حول رداءة مستوى العرائس البلاستيك، أدهشني فيه ممارسة البائع للنقد الذاتي، وهو ما تبدى في قوله الصريح: "يعني مستني إيه من عرايس مستوردة من تايوان.. هي صحيح بالشيئ الفلاني بس زي قلتها"، ولأن ذلك السلوك المتجرد من التحيز أعجبني، لم أرغب في سؤاله عما إذا كانت تلك "فرشته ولا واقف عليها بس"، لكي لا يزول إعجابي بصراحته، وأكتشف أنه رغبة في الانتقام من صاحب البضاعة.
على بعد خطوات احتشد عيال كثيرون حول زقازيق متهالكة ـ جمع زقزيقة متهالكة ـ كتب الله السلامة بالكاد لكل من يركبها، وكتب صاحبها على كل زقزيقة منها اسم دولة عربية "مصر ـ السعودية ـ الكويت ـ عمان ـ قطر ـ المغرب ـ الأردن ـ ليبيا"، وحتى هذه اللحظة لا أدري لماذا رُسمت شارة النازية على زقزيقة الأردن بالذات دون غيرها، وبالطبع كنت أعقل من أن أقوم بشغل وقت القائم على مقاليد الزقازيق، لسؤاله عما إذا كان ذلك ينبع من تجربة عمالة سيئة في الأردن، أم أن وراءها سببا آخر. كانت الأصوات المنبعثة من حركة الزقازيق براكبيها تبعث على الخوف الشديد من أن تتفكك أوصالها فترشق براكبيها في رؤوس المحيطين بها، لكنني لم أصادف في المكان المحيط أحداً يظهر عليه الخوف غيري، ربما لأنني لم أكن أمتلك إيمانا كاملا بشعار "العين صابتني ورب العرش نجّاني.. والحلوة من الخليفة"، المكتوب بحذافيره فوق كل زقزوقة، ليكون بمثابة تعويذة، تحمي راكبيها من السقوط، حين تتشعلق بهم الزقازيق العروبية في فضاء السيدة.
في الجوار، ثمة شباب أعماه "البورشام" عن ذكر الله وذكر ما سواه، وأقنعه بضرورة الوقوف بالمقلوب على مرجيحة ضخمة متهتكة المفاصل، لعله يتوازن، وبالقرب من قسم السيدة وقف جمع من الصعايدة يستعرضون مهارتهم في رقصة العصا، على أنغام صوت جميل وحزين ينبعث من كاسيت عملاق يحمله أحدهم على كتفه، لم أنسى له أبدا تجليه في غناء عبارة تقول "لما جينا ناخد عَدَلنا.. الأيام ولّت وراحت"، قبل أن يقرر حامل الكاسيت لسبب غامض وقف تشغيله فجأة، ليهتف بحياة أهل جهينة وطهطا، وهو يغالب رغبته في البكاء، وفي حين شكره بعض الواقفين، قال له أكبر الرجال سنا بوقاحة: "شغّل الشريط تاني يا (ك..) أمك ما تفلقش ديك أبونا".
من سرادق مجاور انبعث صوت من أنكر الأصوات يكرر بشكل مستفز "كلام كلام كلام بياعين كلام"، ولم يكن يمارس رغبة في الإسقاط السياسي بالتأكيد، بل لتقطيم المقلين في "تنقيط" المطرب والغوازي من رواد السرادق البخلاء. وعلى ناصية قريبة دخلت فلاحة تبيع الحمص في وصلة ملاغية طويلة، مع رجل أربعيني كامل اللزوجة، لتقلب الوصلة بعد قليل إلى خناقة حامية، يحضرني منها الآن قولها له: "جتك الهم وانت متعايق بشعرك الملزّق بتفافة"، قبل أن تخفض صوتها قليلاً فتذكر بعض أمه بسوء. وعلى أكشاك النيشان وقفت بنات تحت العشرين كما بدا جلياً من إحكام الدهر لانتفاخاتهن، مرتديات ملابس يغلب عليها التهتك المحسوب واللازم لجر رجل الزبون إلى مكان ما، والمصحوب بضحكات عريضة ذوات أذيال، تنقطم فجأة إن تجاوز الزبون حدوده فسبقت يده لسانه، لتحل محل تلك الضحكات زغرات حادة، تتحول عند اللزوم إلى شخرات، هي بمثابة شفرات يظهر على إثرها، رجال يختبئون في أماكن معلومة، في انتظار خفيف الروح الذي دعت عليه أمه، حين اغتر بوقوف الفتيات لوحدهن دون حماية.
يحيط بك الأكل أينما حللت في أرجاء المكان: كشري وكسكسي وبليلة وهريسة وفول وطمعية وحمص شام وسمين، الكل مُرزق والطحن والمضغ على أشده، وهواة الطبيخ يتزاحمون أمام فلاحات تضعن حلل الطبيخ التي محا الهباب ملامحها، فوق مواقد اشتكت من طول مدة الخدمة، ووسط الصيحات المتناثرة من رواد الطبيخ، لم أسمع إلا عبارة "زودي شوية دمعة والنبي يا ست". على بعد خطوات من حلقات الطبيخ، وفي مطعم الركيب، حضرت خناقة لوجيه ريفي أمثل مع جرسون المطعم، تسبب فيها غياب الشفافية عن أداء الجرسون: "كان لازم تقول إن الفتة بخمسة جنيه من الأول، عشان اللي بيحصل ده سرقة في ليلة مفترجة"، ليشير له الجرسون الوقح إلى الفلاحات الفارشات ببوابير الجاز أمام المحل: "طب ما كنت تروح تاكل هناك يا عم بدل ما انت عامل لي فيها معلم ومتعايق بالشال والعباية، واعلا بالحساب عشان ما أتغاباش عليك"، لتشتعل خناقة سرعان ما انطفأت عندما تدخل أولاد الحلال لتهدئتها، بالتحذير من خطورة إغضاب أم العواجز في ليلتها.
أمام الباب المؤدي إلى ضريح رئيسة الديوان، يختار عساكر الأمن المركزي المؤخرات السمينة من بين المتزاحمين، لينزلوا عليها ضرباً بالخيرزانات، مخفين خلف الشخطات التي تدعي فرض النظام، سعادة لا حدود لها بالسلطة الممنوحة لهم في لسع المؤخرات، دون أن يمارسوا في ذلك تفريقاً بين ذكر وأنثى. أبتعد إلى أطراف الميدان باحثاً عن نسمة هواء، فأجد فرشة كتب نزحت من السور القريب إلى أطراف الميدان، يقف عليها مثقف مرهق يدقق في أكوام الكتب المتربة، في حين يصحو البائع من نومته على الكرسي ليوجه له نظرات ملولة، قبل أن يعود ثانية لنومه.
في سرادق قريب يقف على المنصة شاب بهي الطلعة، لا تجد شكاً في أنه يحلم بتجديد شباب ياسين التهامي، ليغني بمزاج حقيقي، على لحن لأم كلثوم كلاما لم تغنه للأسف أم كلثوم: "ليلي نهاري غارقا في ذكرها.. وسكري بها عند التجلي صحوتي"، وفي كافة الشوارع المحيطة بالمسجد العتيق، ينام المئات على الأرض بما تيسر من غطاء أو دون غطاء، فلا تدري كيف وجدوا سبيلا إلى النوم العميق وسط كل هذا الصخب العنيف، وهل راحوا في النوم إعياءً أم سكينة أم زهقاً أم كل ما سبق؟، فتجد نفسك وأنت تتأمل كل ما حولك، وقد رحت في الضحك على تلك المحاولات التي بذلها كثيرون حاولوا بالأدلة العلمية والتاريخية، إقناع المصريين بأن السيدة زينب ليست موجودة أصلا في هذا الضريح، غافلين عن أن السيدة زينب لو لم تكن موجودة هنا في هذا الضريح لاخترعها المصريون، ولصنعوا لها ليلة كبيرة يبحثون فيها عن البهجة واللمة والهيصة والفضفضة والشكوى من الغم المبين والظلم المقيم.
أمام نصبة كبيرة للحمص والسمسمية وحلاوة المولد، استخدم البائع تكنيكاً خالداً في البيع، هو تكنيك التقطيم الكاذب: "دي جدعنة كبيرة مننا بس ما تغلاش عليكو.. تضحية ما تتعملش إلا للغاليين.. لفة حلويات المولد اللي ما تحلمش بيها بخمسة جنيه.. على الله يطمر.. على الله نلاقي حد يقدّر.. على الله حد يفتكر عياله وأهل بيته وما يستخسرش يدخل عليهم بحاجة حلوة أحسن ما يتنشل في المولد ويتقال إنه رجع من المولد بلا حلاوة"، وتوافد الزبائن المبتسمين إعجاباً بأدائه الحيوي، أكثر من إعجابهم بسطور حواره المفقوس، أخذ يشجعه على المزيد من التطاول المحسوب بالشعرة، والذي تعلم أن يقيسه على الهواء من قراءته الدائبة لوجوه المتحلقين حوله.
من بعيد ثارت جلبة عنيفة، لم يبدُ أن من الحكمة استطلاع سببها قبل أن تهدأ، ليتضح بعد قليل أن سببها كما يقول الراوي الذي كان يمر بالجوار فشهد على ما حدث: "شلة من الصيّع والشلحلجية اصطادوا جماعة فلاحين، خطفوا الطراطير من على روسهم وغَرَفوهم لغاية ما جابوا دم، وخدوا واحد منهم رموه على الناس اللي قاعدة في السرادق فالناس اتلمت عليهم وفشختهم ضرب وبعابيص، كل سنة العيال الوسخة دي تطفش مننا الناس ويقولك المولد ما عادش زي الأول.. هيبقى زي الأول ليه لما كل واحد مش عارف يلم عياله ويفهمهم إن في ناس بتأكّل عيالها السنة كلها من ورا الليلة دي بس"، لتضفي شهادته على المكان والليلة بأكملها ملمحاً سوسيولوجياً جارحاً وشارحاً، ومن بعيد علا أخيرا صوت أذان الفجر، فتوقفت أصوات الغناء والموسيقى، دون أن تتوقف التحيات والسلامات، الناضحة برغبة ملحة في لم أكبر قدر ممكن من النقوط قبل أن تنفض الليلة الكبيرة، حين يطلع النهار الذي لم يكن أحد يتمنى قدومه أبدا".
"شي لله يا مصر".
كانت تلك واحدة من الفرص التي تبدو سانحة وواجبة، لكي أتخلى عن مراعاة أكل عيشي وأسعى لقطعه فوراً، فأخبر رئيس تحرير صحيفتنا البائسة برأيي الحقيقي فيه وفي اليوم الذي شخّ فيه عليّ الزمن فعملت تحت رئاسته، ثم أستقيل لأسباب عديدة من أوجهها، أنني لا يمكن أن أعمل تحت رئاسة شخص خال من أي انفعالات أو عواطف أو مظاهر إنسانية، لدرجة أنه لم يضبط متلبساً بإطلاق ريح أو تكريعة أو حتى شخرة خجولة، كسائر البشر الذين تضطرهم الظروف للعمل ساعات طويلة في أماكن مغلقة سيئة التهوية لا تخلو حماماتها بسرعة، وكان مما يؤكد اعتقادنا بلا آدميته أننا لم نره يعرق أبداً حتى في عز أغسطس، وإذا ظننت أنني ناقص الأهلية فاقد العقل، لأنني أمقت شخصاً لأنه لا يطلق ريحاً ولا يعرق ولا يتكرّع، فدعني أصارحك أن كل ما قلته آنفاً لم يكن سوى مجرد تلكيكة لكراهيته، بعد أن سمعنا عن "الرقم" المهول الذي يحصل عليه كل شهر مقابل إدارته البضينة لسفينة صحيفتنا الغارقة، ولعله يهمك أن تضيف إلى معلوماتك أنني كان قد سبق لي كراهية رؤساء تحرير كانوا يتكرعون ويعرقون ويشخرون ويطلقون من الروائح ما لا يقل نتانة عما كانوا يكتبونه.
لكنني مع ذلك كله، لم أبادر لإعلان استقالتي في تلك اللحظة الفارقة، لأنني لم أكن في الأصل معيناً في الصحيفة التي كانت مثلنا جميعاً ترقد على كف عفريت جربان، كلما هرش أصبحت أرزاقنا مهددة، فضلاً عن أنني كنت ولا أخفيك سراً، قد شعرت بالصدمة مثل رئيس تحريرنا "الجلمودي" الذي يتخفى في جلد آدمي، لأن مستوى الجمال في تلك الليلة الكبيرة التي قضيناها في رحاب أم العواجز ورئيسة الديوان ستنا زينب عليها السلام، بدا لي ولزميلي المصور، بعيداً بالفعل عن كافة التفسيرات البصرية الممكنة لكلمتي (القمرات) و(الشربات) اللتين اختارهما أبونا صلاح جاهين لوصف بنات المولد، بالطبع لم أكن أنتظر أن أرى ميرفت أمين واقفة تتقصّع على ماكينة غزل البنات، أو سهير رمزي وهي سارحة بحمص وحلاوة وجلابية محزّقة مشقوقة الجنبين، أو شويكار وهي تفرد ساقيها البديعتين حول نصبة للكوارع والسمين، لكن ما رأيناه حولنا في تلك الليلة الكبيرة، كان للأسف وعلى عكس ليال كبيرة سابقة، معرضاً مفتوحاً لآثار سوء التغذية والإرهاق الدائم والقلي بزيت العربيات وماكياج مصانع بير السلم.
لكنني "الآن أتكلم"، وبعد كل هذه السنين التي مضت على تلك الليلة، وبعد أن تخلصت من تفاهات السن المبكرة، واكتسبت تفاهات جديدة، فألوم أمامكم وأمام محكمة التاريخ نفسي وزميلي المصور، على امتلاكنا تصوراً ضيقاً ووضيعاً للجمال، كنا نستمده كسائر أبناء جيلنا والأجيال التي تليه، من مقاييس جمال نجمات السينما المصرية والأمريكية وفتيات أغلفة مجلات الأزياء، وهو تصور لا يتناسق أصلاً مع حالة وجوهنا وأجسادنا نحن، التي هي أبعد ما يكون عن مفاهيم الجمال والرشاقة كما تروج لها السينما ومجلات الأزياء، ومع ذلك، ولكي لا أفرط في لوم نفسي وزميلي رغبة في التطهر، دعوني أقرر أننا حتى لو كنا نمتلك وقتها تصوراً أكثر إنسانية ورحابة للجمال، لما كان ذلك قد ساعدنا على إنجاز مهمتنا الصحفية البلهاء، التي طلب فيها رئيس التحرير منا أن نترجم أوبريت الليلة الكبيرة إلى صور تحاول ما استطاعت أن تقارب فتنة ما كتبه صلاح جاهين، ثم أعلق عليها بكتابة نثرية تقارن ما كتبه جاهين في أوبريته الأشهر، بما شاهدناه في تلك الليلة من ليالي عام 1998.
لم تلق كتابتي التي التزمت بحدود المهمة، مصيراً أفضل من صور زميلي، حيث انهال عليها رئيس التحرير تريقة وشخرمة، بادئا بفقرة كنت قد تحدثت فيها عن ظاهرة قلة عدد الفتيات والسيدات الحاضرات لتلك الليلة الكبيرة، وهو ما فسّرته بـ "سطوة الرهبة المعنوية لأصابع بعض رواد المولد، التي باتت تبعد الكثيرات عنه في السنوات الأخيرة"، فقرأ بسلامته العبارة متلمظاً، ثم قال لي: "يعني القارئ المفروض يفهم كلامك عن الصوابع ده إزاي"، فقلت كاظماً غيظي: "يعني لو راح المولد مع حد من أهل بيته يمكن ياخدوا لهم صباعين فيفهم"، وإذا استغربت سؤاله وردي، فعليك أن تلاحظ أننا لم نكن يومها قد شهدنا الزمن الذي يتحول فيه التحرش الجماعي إلى ظاهرة مألوفة ومترقبة في الأعياد والمناسبات الدينية والوطنية، فقد كانت حادثة فتاة العتبة التي وقعت قبل سنوات، لا تزال تُعامل كواحدة من علامات يوم القيامة.
يومها، لم يفهم رئيس التحرير القادم من الخليج بعد غربة سنوات، لماذا لم نجد أنا وزميلي في مولد السيدة زينب، لا البنات القمرات ولا شجيع السيما أبو شنب بريمة ولا الريس حنتيره ولا البلياتشو ونتشُه، ومع أنه لم يوجه لنا اتهامات صريحة بالتقصير في العمل، لكنه تساءل بنبرة غير مريحة عما إذا كنا قد طفنا على المولد بأكمله، أم أننا فقط قررنا أن نراه من أطرافه بسبب الزحام، وفي حين انبرى زميلي المصور ليدفع عن نفسه اتهامات "الكروتة والطلسقة"، قررت أن أسأل رئيس التحرير عن آخر مرة ذهب فيها إلى مولد السيدة أوغيره من الموالد، فقال بهدوء يفقع خصية الحجر، إنه بعد مشاهدته لفيلم (مولد يا دنيا) في نهاية السبعينات، لم يشعر بفضل المخرج حسين كمال أنه بحاجة لزيارة المولد فعلياً، لنقضي الوقت الذي تلا إجابته، في محاولة إقناعه أن ما صدر عن حنجرة زميلي المصور كان كحة ناشفة وليس شخرة، مع أنه كان يعرف جيداً أنها شخرة، فهو إن لم يكن قد تفوه بمثلها، كان حتماً قد سمعها كأي مواطن يعيش على أرضنا الخضراء.
قرر رئيس التحرير إما رهبة من سماع شخرة تالية أو توفيرا للوقت، أن يقوم بإلغاء فكرة المطابقة بين الأوبريت الجاهيني وصور الليلة الكبيرة الفعلية، ليقرر نشر بعض من صور زميلي، خصوصا تلك التي انبطح من أجلها على الأرض، ليصنع كادرا متعدد الأبعاد والألوان والدلالات، بصحبة مقتطفات من كتابتي التي قرر أن يحذف الكثير من مقاطعها التي ستجرح شعور القراء، وكنت قد قررت أن أتقبل ذلك عملاً بقول الشاعر: "عدّي يا ليلة، عدّي يا ليلة"، لولا أنه زوّدها على الآخر حين تهكم على إشارتي إلى مطعم الرفاعي، الذي جلس صلاح جاهين عليه ليشحن بطارية إبداعه بأكلة موزة وكباب معتبرة، قبل أن يجلس على قهوة في ميدان السيدة، ليكتب أوبريته العظيم الذي صار لسنين النشيد الرسمي لأطفال مصر، ملمحاً إلى أن تلك الإشارة ليست سوى "إعلان كان ينبغي لولا تسامحه أن يكون مدفوع الأجر"، وكان تعليقه الواطئ ذاك هو القشة التي قصمت ظهر بعير الصبر، فجعلتني أطلب منه سحب موضوعي على الفور، لأذهب بما كتبته وبصور زميلي إلى صحيفة تعرف "قيمة الرجال الذي لا يبيعون شرفهم المهني بكباب الدنيا وكفتتها".
ولأنني لم أجد وقتها صحيفة بتلك المواصفات، فقد ذهبت صور زميلي أدراج العِزال من شقة إلى أخرى بضم الألف، ومن صحيفة إلى أخرى بفتح الألف، ولعله إن قرأ كلامي الآن، يدرك أن ذلك الضياع كان في مصلحته تماماً، لأنها كانت صورا شديدة البشاعة والقبح، وأن قبحها لم يكن "قبحاً فنياً له جماله الآسر الذي لا يدركه إلا الذين لم تألف عيونهم القبح العادي"، كما قال له زميلنا محرر صفحة الثقافة، الذي اعترف لي أنه قال له ذلك لأنه كان يضمر أن يقترض منه عشرين جنيها، تماما كما أعترف لك الآن أن موضوعي نفسه كان يمتلئ ببعض الفقرات الإنشائية البلهاء، وهو ما جعلني أعيد كتابته، ليجد طريقه إلى النور من جديد، فتعيش معي كما أتمنى أجواء تلك الليلة الكبيرة كما شهدتها:
"في شادر كبير لتجار سوق السيدة زينب جلست امرأة ممتلئة داكنة الملامح والنوايا، على كرسي متهالك في يسار المنصة الخشبية، تنتظر بزهق انتهاء من تصورتُ أنه "دكرها" من ضرب السلامات المربعة التي كان يمليها عليه رجل ضخم الجثة مهيب الطلعة: "إحنا بنحيي كل مدابغ مصر القديمة.. مصر العظيمة.. مصر بلدنا.. بلد أبويا وجد جدي.. وأحلى سلام للحاج البرنس بتاعنا كلنا.. احنا اخترناه وكلنا وراه.. البرنس مالناش غيره.. مالناش غيره"، والمعلم الذي كان يقوم بتلقين السلامات على "فكهاني البُقّ" الذي يجوّدها بالمط والتنغيم، سِخِن فجأة ورأى أن الحالة لا تقتضي أن تصل مشاعره عبر وسيط، فخطف "الحديدة" من "بُق النوبتشي"، وأخذ يصرخ في الميكروفون بصوت متهدج وجسد منتفض: "البرنس عمنا كلنا.. ما يزعلش مننا.. والست أمنا.. وكلنا محاسيبها.. وعايزين نخش في الموضوع.. اللي ما يعرفش البرنس وما يعرفش الحاجة علية الديب يبقى راجل حمار وابن مرة وسخة.. واسكت يا لساني.. اسكت يا لساني.. عشان احنا في حمى السيدة.. ومش عايز أشتم بالأب والأم.. ولا عايز أسب الدين.. وسمّعني عظيمة يا مصر.. مصر حرة والسيدة زينب حرة وكل صعايدة الدنيا منورين عندنا".
نزع النوبتشي الميكروفون من خاطفه المهتاج بالعافية، في حين تولى ثلاثة رجال غلاظ شداد احتضان المعلم وتهدئته، ليتضح لي أن السيدة الممتلئة التي كانت تجلس على الكرسي منتظرة بزهق، لم تكن "تبعه" أصلاً، بل كانت المطربة التي يفترض بها أن تبدأ وصلة غنائية جديدة، ولأنها كانت متضايقة جدا من السياق بأكمله، أو "دابّاها جامد" قبل بدء الغناء، فأنا لم أعد أذكر مما غنته بصوت زاحف "مخنِفّ" سوى تكرارها المنغم لعبارة "منك لله ياللي تخون العيش والملح"، التي بدا لي أنها رسالة موجهة إلى بلكونة قريبة، أكثر من كونها صورة شعرية تستحسن تكرارها.
في سرادق مجاور، علا صوت مطرب عجوز صادحاً بغناء حزايني الكلام فرايحي الإيقاع، في حين امتلأت الخشبة عن بكرة أمها، بشباب في سن الضياع يرقصون بالمطاوي والسنج، على خلفية تكرار المطرب العجوز لأحد أهم الوصايا العشر لدى عموم المصريين: "لا تخون أخوك اللي أكل معاك في طبق واحد"، والرجل الكُبّارة كان يبدو عليه أنه قرفان جداً من "السيتويشن" بأكمله، حتى أنه قطع الغناء فجأة ليحذر من انهيار الخشبة باللي فيها، وحين أثارت ملاحظته استياء الراقصين، خطف نوبتشي السرادق منه الميكروفون، ليحيي بعزم ما فيه: "المعلم البرنس برنس مصر الأول وصبيان المعلم البرنس أجدع معلمين لأجدع معلم"، ليبدو لي أن المعلم البرنس متحمس جدا للسيدة زينب وليلتها الكبيرة، لدرجة أنه صرف أموالاً كثيرة على سرادقين كبيرين، لا يبعدان كثيرا عن بعضهما، ولعل له في المولد سرادقات أخرى لم أحط بها خُبراً.
كل من سألتهم عن كُنه المعلم البرنس وماهيته، قابلوا أسئلتي للأسف بعدائية شديدة، لم أفهم سرها، إلا حين قال لي على انفراد شخص بدا عليما ببواطن الأمور، أنه "أكبر تاجر مخدرات في بر مصر تِمّا"، في حين قال صديق له إن هذه فرية حقيرة، لأن المعلم البرنس "أكبر تاجر أدوات كهربائية في بر مصر تمّا"، في حين رأى صديق ثالث لهما بدا لي أكثر علما وإحاطة، أن المعلومتين صحيحتين تماماً ولا تنفي إحداهما الأخرى، لكن المعلومة التي بدت لي أصح وأدق بعد كل هذا الجدل، هي التي أطلقها نوبتشي السرادق المجاور: "اللي يقول مصر ما فيهاش فلوس يبقى راجل حمار".
في ركن بعيد عن السرادقات الصاخبة، دارت مناقشة ثرية بين زبون وتاجر عرائس حول رداءة مستوى العرائس البلاستيك، أدهشني فيه ممارسة البائع للنقد الذاتي، وهو ما تبدى في قوله الصريح: "يعني مستني إيه من عرايس مستوردة من تايوان.. هي صحيح بالشيئ الفلاني بس زي قلتها"، ولأن ذلك السلوك المتجرد من التحيز أعجبني، لم أرغب في سؤاله عما إذا كانت تلك "فرشته ولا واقف عليها بس"، لكي لا يزول إعجابي بصراحته، وأكتشف أنه رغبة في الانتقام من صاحب البضاعة.
على بعد خطوات احتشد عيال كثيرون حول زقازيق متهالكة ـ جمع زقزيقة متهالكة ـ كتب الله السلامة بالكاد لكل من يركبها، وكتب صاحبها على كل زقزيقة منها اسم دولة عربية "مصر ـ السعودية ـ الكويت ـ عمان ـ قطر ـ المغرب ـ الأردن ـ ليبيا"، وحتى هذه اللحظة لا أدري لماذا رُسمت شارة النازية على زقزيقة الأردن بالذات دون غيرها، وبالطبع كنت أعقل من أن أقوم بشغل وقت القائم على مقاليد الزقازيق، لسؤاله عما إذا كان ذلك ينبع من تجربة عمالة سيئة في الأردن، أم أن وراءها سببا آخر. كانت الأصوات المنبعثة من حركة الزقازيق براكبيها تبعث على الخوف الشديد من أن تتفكك أوصالها فترشق براكبيها في رؤوس المحيطين بها، لكنني لم أصادف في المكان المحيط أحداً يظهر عليه الخوف غيري، ربما لأنني لم أكن أمتلك إيمانا كاملا بشعار "العين صابتني ورب العرش نجّاني.. والحلوة من الخليفة"، المكتوب بحذافيره فوق كل زقزوقة، ليكون بمثابة تعويذة، تحمي راكبيها من السقوط، حين تتشعلق بهم الزقازيق العروبية في فضاء السيدة.
في الجوار، ثمة شباب أعماه "البورشام" عن ذكر الله وذكر ما سواه، وأقنعه بضرورة الوقوف بالمقلوب على مرجيحة ضخمة متهتكة المفاصل، لعله يتوازن، وبالقرب من قسم السيدة وقف جمع من الصعايدة يستعرضون مهارتهم في رقصة العصا، على أنغام صوت جميل وحزين ينبعث من كاسيت عملاق يحمله أحدهم على كتفه، لم أنسى له أبدا تجليه في غناء عبارة تقول "لما جينا ناخد عَدَلنا.. الأيام ولّت وراحت"، قبل أن يقرر حامل الكاسيت لسبب غامض وقف تشغيله فجأة، ليهتف بحياة أهل جهينة وطهطا، وهو يغالب رغبته في البكاء، وفي حين شكره بعض الواقفين، قال له أكبر الرجال سنا بوقاحة: "شغّل الشريط تاني يا (ك..) أمك ما تفلقش ديك أبونا".
من سرادق مجاور انبعث صوت من أنكر الأصوات يكرر بشكل مستفز "كلام كلام كلام بياعين كلام"، ولم يكن يمارس رغبة في الإسقاط السياسي بالتأكيد، بل لتقطيم المقلين في "تنقيط" المطرب والغوازي من رواد السرادق البخلاء. وعلى ناصية قريبة دخلت فلاحة تبيع الحمص في وصلة ملاغية طويلة، مع رجل أربعيني كامل اللزوجة، لتقلب الوصلة بعد قليل إلى خناقة حامية، يحضرني منها الآن قولها له: "جتك الهم وانت متعايق بشعرك الملزّق بتفافة"، قبل أن تخفض صوتها قليلاً فتذكر بعض أمه بسوء. وعلى أكشاك النيشان وقفت بنات تحت العشرين كما بدا جلياً من إحكام الدهر لانتفاخاتهن، مرتديات ملابس يغلب عليها التهتك المحسوب واللازم لجر رجل الزبون إلى مكان ما، والمصحوب بضحكات عريضة ذوات أذيال، تنقطم فجأة إن تجاوز الزبون حدوده فسبقت يده لسانه، لتحل محل تلك الضحكات زغرات حادة، تتحول عند اللزوم إلى شخرات، هي بمثابة شفرات يظهر على إثرها، رجال يختبئون في أماكن معلومة، في انتظار خفيف الروح الذي دعت عليه أمه، حين اغتر بوقوف الفتيات لوحدهن دون حماية.
يحيط بك الأكل أينما حللت في أرجاء المكان: كشري وكسكسي وبليلة وهريسة وفول وطمعية وحمص شام وسمين، الكل مُرزق والطحن والمضغ على أشده، وهواة الطبيخ يتزاحمون أمام فلاحات تضعن حلل الطبيخ التي محا الهباب ملامحها، فوق مواقد اشتكت من طول مدة الخدمة، ووسط الصيحات المتناثرة من رواد الطبيخ، لم أسمع إلا عبارة "زودي شوية دمعة والنبي يا ست". على بعد خطوات من حلقات الطبيخ، وفي مطعم الركيب، حضرت خناقة لوجيه ريفي أمثل مع جرسون المطعم، تسبب فيها غياب الشفافية عن أداء الجرسون: "كان لازم تقول إن الفتة بخمسة جنيه من الأول، عشان اللي بيحصل ده سرقة في ليلة مفترجة"، ليشير له الجرسون الوقح إلى الفلاحات الفارشات ببوابير الجاز أمام المحل: "طب ما كنت تروح تاكل هناك يا عم بدل ما انت عامل لي فيها معلم ومتعايق بالشال والعباية، واعلا بالحساب عشان ما أتغاباش عليك"، لتشتعل خناقة سرعان ما انطفأت عندما تدخل أولاد الحلال لتهدئتها، بالتحذير من خطورة إغضاب أم العواجز في ليلتها.
أمام الباب المؤدي إلى ضريح رئيسة الديوان، يختار عساكر الأمن المركزي المؤخرات السمينة من بين المتزاحمين، لينزلوا عليها ضرباً بالخيرزانات، مخفين خلف الشخطات التي تدعي فرض النظام، سعادة لا حدود لها بالسلطة الممنوحة لهم في لسع المؤخرات، دون أن يمارسوا في ذلك تفريقاً بين ذكر وأنثى. أبتعد إلى أطراف الميدان باحثاً عن نسمة هواء، فأجد فرشة كتب نزحت من السور القريب إلى أطراف الميدان، يقف عليها مثقف مرهق يدقق في أكوام الكتب المتربة، في حين يصحو البائع من نومته على الكرسي ليوجه له نظرات ملولة، قبل أن يعود ثانية لنومه.
في سرادق قريب يقف على المنصة شاب بهي الطلعة، لا تجد شكاً في أنه يحلم بتجديد شباب ياسين التهامي، ليغني بمزاج حقيقي، على لحن لأم كلثوم كلاما لم تغنه للأسف أم كلثوم: "ليلي نهاري غارقا في ذكرها.. وسكري بها عند التجلي صحوتي"، وفي كافة الشوارع المحيطة بالمسجد العتيق، ينام المئات على الأرض بما تيسر من غطاء أو دون غطاء، فلا تدري كيف وجدوا سبيلا إلى النوم العميق وسط كل هذا الصخب العنيف، وهل راحوا في النوم إعياءً أم سكينة أم زهقاً أم كل ما سبق؟، فتجد نفسك وأنت تتأمل كل ما حولك، وقد رحت في الضحك على تلك المحاولات التي بذلها كثيرون حاولوا بالأدلة العلمية والتاريخية، إقناع المصريين بأن السيدة زينب ليست موجودة أصلا في هذا الضريح، غافلين عن أن السيدة زينب لو لم تكن موجودة هنا في هذا الضريح لاخترعها المصريون، ولصنعوا لها ليلة كبيرة يبحثون فيها عن البهجة واللمة والهيصة والفضفضة والشكوى من الغم المبين والظلم المقيم.
أمام نصبة كبيرة للحمص والسمسمية وحلاوة المولد، استخدم البائع تكنيكاً خالداً في البيع، هو تكنيك التقطيم الكاذب: "دي جدعنة كبيرة مننا بس ما تغلاش عليكو.. تضحية ما تتعملش إلا للغاليين.. لفة حلويات المولد اللي ما تحلمش بيها بخمسة جنيه.. على الله يطمر.. على الله نلاقي حد يقدّر.. على الله حد يفتكر عياله وأهل بيته وما يستخسرش يدخل عليهم بحاجة حلوة أحسن ما يتنشل في المولد ويتقال إنه رجع من المولد بلا حلاوة"، وتوافد الزبائن المبتسمين إعجاباً بأدائه الحيوي، أكثر من إعجابهم بسطور حواره المفقوس، أخذ يشجعه على المزيد من التطاول المحسوب بالشعرة، والذي تعلم أن يقيسه على الهواء من قراءته الدائبة لوجوه المتحلقين حوله.
من بعيد ثارت جلبة عنيفة، لم يبدُ أن من الحكمة استطلاع سببها قبل أن تهدأ، ليتضح بعد قليل أن سببها كما يقول الراوي الذي كان يمر بالجوار فشهد على ما حدث: "شلة من الصيّع والشلحلجية اصطادوا جماعة فلاحين، خطفوا الطراطير من على روسهم وغَرَفوهم لغاية ما جابوا دم، وخدوا واحد منهم رموه على الناس اللي قاعدة في السرادق فالناس اتلمت عليهم وفشختهم ضرب وبعابيص، كل سنة العيال الوسخة دي تطفش مننا الناس ويقولك المولد ما عادش زي الأول.. هيبقى زي الأول ليه لما كل واحد مش عارف يلم عياله ويفهمهم إن في ناس بتأكّل عيالها السنة كلها من ورا الليلة دي بس"، لتضفي شهادته على المكان والليلة بأكملها ملمحاً سوسيولوجياً جارحاً وشارحاً، ومن بعيد علا أخيرا صوت أذان الفجر، فتوقفت أصوات الغناء والموسيقى، دون أن تتوقف التحيات والسلامات، الناضحة برغبة ملحة في لم أكبر قدر ممكن من النقوط قبل أن تنفض الليلة الكبيرة، حين يطلع النهار الذي لم يكن أحد يتمنى قدومه أبدا".
"شي لله يا مصر".