ثمّة قول بأن الجزائر تعيش حركية ثقافية ملموسة، وهو رأي يستند إلى عدد الكتب المنشورة كل عام، والذي تضاعف مرّات عِدّة مقارنة بالعقود الماضية، ما ساعد على ظهور أسماء أدبية وفكرية جديدة، إضافة إلى ظهور دورِ نشر فتيّة تحاول تنشيط الجو الثقافي وخلق تقاليد أدبية.
غير أن هذا الواقع يثير اختلافاً بين الفاعلين والمهتمّين بالشأن الثقافي، فبينما يرى بعضهم أن "الهبّة" الثقافية حقيقية شكلاً ومضموناً، يُصّر آخرون على أن الكيف أهمّ من الكم في عالم الكتابة.
يرى أبو بكر حمادي، مدير "دار بوهميا للنشر والتوزيع"، في حديث إلى "العربي الجديد"، أن الساحة الأدبية الجزائرية شهدت أخيراً انتعاشاً على مستوى الكتّاب والمؤلّفات، حيث ظهرت دور نشر شبابية جديدة تحاول تقديم إضافة وخلق حالة من المنافسة، معلقاً على الأصوات التي تنتقد كثرة الكتب التي باتت تصدر في الآونة الأخيرة بالقول: "هناك من يصف هذه الحركية بالاستسهال أو الطوفان. لكنني أرى فيها دينامكية ستُحدث ولا شك أثراً إيجابياً".
يضيف: "لا يحق لأحدنا ممارسة وصاية على نصوص الآخرين. لنا حق النقد لا الرفض، ولهذا أجد أن عبارة "استسهال النشر" في الجزائر غير دقيقة. قبل سنوات فقط، كان التأليف حكراً على أسماء معيّنة بينما ظلّت أسماء أخرى، وفيها متميّزون، تعاني من رهاب الورق والرفوف".
يشير حمّادي، أيضاً، إلى أنه "في أميركا، مثلاً، تفوق عدد الإصدارات السنوية 300 ألف إصدار، وفيها الرديء والجيد، ونحن بعيدون كل البعد عن هذا الرقم الكبير"، مؤكّداً هنا ضرورة "تشجيع المُطالعة وتنظيم الدورات الخاصة بالكتابة بدل كبح عزائم الآخرين، فالزمن كفيل بالحصول على كتّاب متمرّسين وأعمال عظيمة".
من جهته، وبمقارنة بسيطة، يلفت الروائي والصحافي، حميد عبد القادر، إلى الفرق الشاسع بين عدد الكتب التي كانت تُنشَر في السابق واليوم. يقول: "في 1998، لم تُنشر في الجزائر سوى ثلاث روايات باللغة العربية. واليوم نلاحظ صدور مئات الروايات كل عام. شخصياً".
يكمل "لا يمكنني إنكار وجود حركية ثقافية في الجزائر، لكن يبدو أن دور النشر تتساهل قليلاً في نشر بعض العناوين، خصوصاً مع غياب ثقافة التصحيح المُحكَم وإعادة القراءة، بل وإعادة الكتابة المعمول بها في بلدان أجنبية؛ حيث تطلُب دور النشر الفرنسية، مثلاً، من الكتّاب، بمن فيهم البارزون والمكرّسون، إعادةَ الاشتغال على أعمالهم قبل نشرها، وهذا لا يحدث عندنا".
انطلاقاً من الأرقام، تحدّث الباحث حميد بوحبيب إلى "العربي الجديد"، قائلاً: "إنتاجنا من الروايات في السنوات الخمس الأخيرة فاق ما أنتجناه طيلة ثلاثة عقود سابقة، وإنتاجنا منذ 2000، فاق كل ما أنتجناه منذ ظهور الرواية عندنا، أي منذ نهاية الأربعينيات من القرن الماضي".
وعن تقييمه الأوّلي لهذا الكم الهائل من الروايات، خصوصاً بعد أن طالع العشرات منها في إطار "جائزة آسيا جبار" التي يشارك في عضوية لجنة تحكيمها في دورتها للعام الحالي، تحفّظ بوحبيب عن تقديم رأي مفصّل إلى حين الكشف عن الفائزين، معتبراً أن الجزائريّين يكتبون أكثر مما نتصوّر، وأن "دنيا الأدب بخير".
وحول ذات النقطة ورغم كثرة عدد الكتب، يرى قادة زاوي، مدير دار "الجزائر تقرأ" أن "صناعة النشر في الجزائر لا تزال تقليدية، وغير مُترابطة الحلقات في الغالب"، مضيفاً: "هناك هوّة سحيقة تفصل دور النشر عن القارئ، كما أن غياب رؤية شاملة للنشر يجعل كل ناشر يجتهد في صياغة مساره لوحده، وهو ما يعكسه ظهور دور نشر تؤسّس لمبادراتها الخاصة".
تختلف عناوين الإصدارات في الجزائر وتتشابه مضامينها؛ حيث تطغى الرواية والشعر على حساب الكتب الفكرية التي نادراً ما تلفت الانتباه، وهي وضعية يرجعها حمّادي إلى "الانخفاض الرهيب في الأبحاث العلمية المشتركة بين المؤطّرين والمتفوّقين، والتي توثّق في الأخير على شكل دراسات، وغياب التراجم ومسايرة المستجدّات المنشورة بلغات أخرى حول العالم، في حين أن النص الأدبي يمنح للكاتب الحرية والمساحة الكاملة التي تسمح له بالإبداع بعيداً عن تضييق المصادر والأمانات الفكرية والالتزام بالتحرّي في توظيف المعلومة والمصطلحات".
وحول هذه المسألة، يقول زاوي إن "الجزائر تقرأ" اختارت نشر الأعمال الأدبية من رواية، وقصة، وسيرة، وأدب رحلة، "بما يتلاءم مع استراتيجيتها في خلق محتوى إبداعي جيّد وتصديره إلى الخارج. هذا في مرحلة أولى من عمر الدار قبل الانفتاح على مجالات أخرى لها نفس الأهمية في استكمال مشروعنا الثقافي والمعرفي، ولعل أهمها الكتب العلمية".
وعلى اختلاف مُقارباتها في النشر ومستوى منشوراتها، وكذا الأسماء التي تعتمدُ عليها دور النشر القديمة منها والجديدة في صناعة اسم في ساحةٍ ثقافية لم تجدد نفسها لمدة طويلة؛ ربما يمكننا اعتبار تضاعف الإنتاج ظاهرة صحية ستخفّف من حدّة الرتابة الثقافية، ليبقى على القارئ التمييز بين الغث والسمين.