في هذا السياق، صوّت مجلس محافظة كركوك، أمس، لصالح مشروع قرار رفع علم إقليم كردستان العراق بمقاطعة الأعضاء العرب والتركمان في قرار من شأنه أن يسبب بارتفاع التوتر. وكان مجلس المحافظة قد عقد الاجتماع بناءً على طلب الكتل الكردية للتصويت على رفع علم الإقليم على مباني ومؤسسات الدولة العامة إلى جانب العلم العراقي. وهي الخطوة التي رفضها العرب والتركمان واعتبروها محاولة كردية لضمّ المدينة إلى الإقليم الكردي وفصلها عن بغداد. وقال رئيس مجلس محافظة كركوك ريبوار الطالباني، إن "القرار قانوني". وعلى الرغم من مقاطعة الكتل العربية والتركمانية الاجتماع، إلا أنه حضر 23 عضواً من أصل 41، هم مجموع أعضاء مجلس كركوك، بينهم عضو عربي واحد. ومن المرجح أن تطعن بغداد بالقرار ما قد يفتح الباب أمام أزمة جديدة بين بغداد والاقليم الذي يتمتع بحكم شبه مستقل منذ الاحتلال الأميركي للعراق.
وسبق أن أكد مسؤولون ومراقبون في كركوك لـ"العربي الجديد"، أن "الفتنة ما زالت محصورة بين الكتل السياسية والحركات القومية داخل المدينة، ولم تصل إلى مستوى القاعدة الشعبية". ورأوا أن "هناك من يسعى لذلك وهو ما تخشاه بغداد بطبيعة الحال". بدوره، نأى رئيس الإقليم مسعود البرزاني عن الأزمة وتبعاتها، على اعتبار أن من سيكون مسؤولاً عنها هو حزب الاتحاد، خصمه السياسي الأول في الإقليم.
وبدأت الأزمة في 19 من الشهر الحالي، عندما أمر محافظ كركوك والقيادي بحزب الطالباني نجم الدين كريم برفع أعلام كردستان على مباني الدولة كافة. وهو إجراء وُصف بـ"غير الدستوري"، لأن المدينة ما زالت تخضع ضمن ما يُعرف بـ"البند 140 من الدستور"، الذي كتب بعد الاحتلال الأميركي للبلاد، واستخدم مصطلح "مناطق متنازع عليها بين بغداد وكردستان". مع العلم أن الأكراد يطلقون على كركوك عبارة "قدس الأكراد"، أما التركمان فيعتبرونها مدينتهم الأولى ويطلقون عليها "روح الأجداد" بينما يطلق عليها العرب "قبلة أهل الضاد" أو مدينة سعد بن أبي وقاص، في إشارة إلى فتحها على يد العرب عام 656 وطرد الفرس منها. وفي وسط أزمة القوميات الثلاث، وقع المكوّن المسيحي، الذي يُشكّل نحو 10 في المائة من سكان كركوك، وبدأ أعيانه العمل على تهدئة الوضع في المدينة.
بدوره، دافع محافظ كركوك والقيادي بالتحالف الكردستاني نجم الدين كريم، عن قراره بالقول إن "علم كردستان رفع في تركيا"، في إشارة إلى زيارة البرزاني لأنقرة أواخر شهر فبراير/شباط الماضي، ورفع العلم الكردي. وذكّر بأن "البشمركة هي من تحمي كركوك حالياً من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ومنذ سنوات" وفقاً لقوله.
من جهتها، ردّت الحكومة في بغداد عبر بيان رسمي صدر عن مكتب رئيس الوزراء حيدر العبادي، ذكرت فيه أنه "من الضروري رفع العلم العراقي لوحده في كركوك"، واصفاً رفع علم كردستان بأنه "غير دستوري".
وأضاف البيان أن "الحكومة ترفض جميع المواقف الأحادية في هذا الجانب والدستور أوضح صلاحيات الحكومات المحلية في المحافظات التي لا ترتبط بإقليم، وكركوك واحدة من هذه المحافظات، لهذا لا يجوز رفع أعلام أخرى عليها غير العلم العراقي".
التركمان بدورهم ردوا على التصعيد الكردي من خلال مئات الأعلام الزرقاء التي رفعوها في دوائر رسمية ومقرات حزبية، فضلاً عن أسواق ومناطق عامة، كثفت خلالها الشرطة من تواجدها، خوفاً من أن يؤدي إسقاط أحد هذه الأعلام من قبل من تسميهم "الطائشين" سيولد فتنة كبيرة. وقال مسؤول في الشرطة المحلية لـ"العربي الجديد" إنهم "يبذلون جهداً كبيراً كي لا يقدم أحد على إهانة علم الثاني وتكون مشكلة".
من جانبه، رأى عضو البرلمان، رئيس الجبهة التركمانية العراقية، أرشد الصالحي، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، بأن "الأكراد يحاولون التفرد بإدارة المحافظة وإقصاء بقية المكونات، وهذا مرفوض لنا وللجميع. ونؤكد أن الحكومة في بغداد موقفها واضح وصريح وهو رفع العلم العراقي فقط". وبيّن أن "التركمان يرفضون رفع علم كردستان فوق المباني الحكومية، كونه قرارا غير قانوني وغير دستوري ومحاولة تفرد بالمدينة". كما أعربت الأمم المتحدة عن قلقها إزاء مسألة رفع العلم الكردي في كركوك، محذرة في بيان لها من اتخاذ أية خطوات أحادية الجانب قد تسبب خطورة على حالة التعايش السلمي.
وذكرت بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي)، في البيان، أنها "تعبّر عن قلقها حيال القرار الأخير لمحافظ كركوك برفع علم إقليم كردستان العراق فوق قلعة كركوك، وأن حكومة العراق قد أوضحت أنه وفقاً للدستور فإن كركوك من ضمن صلاحيات الحكومة المركزية، وأنه لا ينبغي رفع أي علم في المحافظة غير علم العراق".
وحذّرت البعثة من "اتخاذ أية خطوات أحادية الجانب قد يعرض للخطر حالة الانسجام والتعايش السلمي بين العديد من المجموعات العرقية والدينية والمحقة في اعتبار كركوك وطناً لها وتود العيش والعمل بشكل مشترك في مرحلة ما بعد تنظيم داعش، والبناء على روح الوحدة والتعاون لجميع المكونات في القتال ضد التنظيم الإرهابي".
أما المتحدث باسم وزارة الخارجية التركية حسين مفتي أوغلو، فقد اعتبر تعليقاً على رفع علم كردستان إن "مثل هذه المبادرات قد تُسبّب ضرراً للهوية الثقافية المتعددة في محافظة كركوك". وأضاف أن "التصرف من قبل طرف واحد في ظلّ الأوضاع الحالية في كركوك والعراق، قد يلحق الضرر بجهود الاستقرار وبالعملية برمتها".
من جانبه، ذكر أحد أعضاء التيار العربي في كركوك علي الجبوري لـ"العربي الجديد"، أن "المدينة لا يمكن لأحد انتزاعها من أحد وعلى الجميع أن يعي خطورة ما يفعلون". وتابع أن "بعض المكونات تتصرف بفكر الأقلية وتتخذ موقفاً هجومياً على مبدأ الهجوم خير وسيلة للدفاع، وتحاول أن تبرز عضلاتها بالأعلام والشعارات التي ترفعها مستغلة المرحلة الحالية. لكن على الجميع ألا يحلم بكركوك خاصة بمكون واحد، وستبقى للجميع وهذا سر بقائها. إنها للجميع. والذي يريد أن يبعد الآخرين ويعاملهم كتابعين، لا كشركاء، سيكون على خطأ كبير". ورفض النائب بالبرلمان عن كركوك خالد المفرجي، ما وصفه "التفرد بالقرارات المهمة بكركوك". ونوّه في حديث لـ"العربي الجديد" إلى أن "كركوك هي مدينة للجميع ونرفض أي قرار أحادي يتخذ فيها دون المكونات الأخرى".
وحول الأزمة، اعتبر أستاذ علم الاجتماع في كركوك أحمد عبد الله، أن "الأزمة لم تصل للشارع في كركوك حتى الآن". وأضاف في حديثٍ لـ"العربي الجديد" أن "الشارع يعلم جيداً أن الموضوع محصور بين كتل سياسية وحركات قومية سبق، أن خاضتها بلا فائدة، وتوقيت هذا يجب ألّا يكون بمعزل عن قرب الانتخابات، لذا نعتقد أن الأطراف التي صعّدت من الأزمة قد تلجأ لحشد الشارع من خلال تصريحات حساسة لكل القوميات الموجودة ويمكن هناك الخوف من تبعات ذلك".
وكركوك تقطنها أربع قوميات هي العرب والأكراد والتركمان والسريان، فضلاً عن سبعة طوائف أو أديان هي الإسلام والمسيحية والصابئية والإيزيدية والكاكائية والزرادشتية والشبك، وسابقاً كان هناك نسبة كبيرة من اليهود لكنهم رحلوا نهاية أربعينيات القرن الماضي، ما يجعلها مدينة ذات ثقافة غنية ومجتمع متعدد العادات والتقاليد.