حركة النهضة والشاعر المتمرد
نحبّ البلاد/ كما لا يحب البلاد أحد/ نحجّ إليها/ مع المفردين/ عند الصباح/ وبعد المساء/ ويوم الأحد/ ولو قتلونا/ كما قتلونا/ ولو شرّدونا/ كما شرّدونا/ ولو أبعدونا/ لبرك الغماد/ لعدنا غزاة/ لهذا البلد.
صاحب هذا المقطع من قصيدة طويلة هو الشاعر التونسي المبدع، الصغير ولاد أحمد، قالها دفاعاً عن تونس التي أنجبته في سيدي بوزيد التي انطلقت منها الثورة، وجعلت منه أحد المبدعين المتمردين باستمرار، قبل الثورة وبعدها. ولعله من أشد الشعراء الذين تصدوا لحركة النهضة، منذ طفت على السطح قوة سياسية صاعدة. وكل خصوم النهضة يحبون شعره، ويلتفون حوله في المناسبات، للاستعانة بقدراته الإبداعية، من أجل إثارة خصومهم، ودعم التعبئة الايديولوجية والسياسية ضدهم.
وحتى يبين أن الإسلاميين يعيشون زمناً غير الزمان الذي يعيشه الحداثيون، وعموم التونسيين، خاطب الجموع التي التقت في ما سمي اعتصام باردو، للمطالبة برحيل حركة النهضة من السلطة، وكانت تلك لحظة ساخنةً وفارقةً، كادت أن تدخل البلاد في حرب أهلية، فصاغ الصغير ولاد أحمد دعوته قائلاً "نحن في يوم الثلاثاء 06 أوت (أغسطس/آب) 2013، وهم في يوم 28 رمضان 1434 هجري". فهوجم من أجل ذلك بقوة، حتى كاد أن يقع إخراجه من دائرة الإسلام. ولعل أخف تعليق تلقاه الشاعر من أحد مثقفي حركة النهضة، العجمي الوريمي، عضو مجلس شورى حركة النهضة، حين كتب على صفحته الرسمية: "إلى الشاعر الصغير أولاد أحمد: صرت أشك في أنك تحب البلاد كما لا يحب البلاد أحد".
قبل أيام، مرض شاعر تونس، ووجد نفسه طريح الفراش، وغاب صوته عن الساحات الأدبية والسياسية والإعلامية. وبينما هو يواجه أوجاعه، ويفكر في مآله، فوجئ بزيارة لم يكن يتوقعها. وفد من حركة النهضة، بقيادة الشيخ عبد الفتاح مورو، يقدمون له باقة ورد، ويتمنون له الشفاء العاجل والعودة سريعاً لمواصلة عطائه الأدبي.
هنا، ذهل حداثيون كثيرون، وعلل بعضهم هذا السلوك بنوع من "التكتيك السياسي". لكن للحادثة معاني أعمق، ودلالات أوسع.
تونس اليوم في حاجة إلى لملمة جراحها، وهي تواجه الضربة تلو الأخرى من المجموعات الإرهابية الساكنة في الجبال والكهوف، ونخبتها بالذات مدعوة إلى أن تتخطى حروبها الأيديولوجية، لتقف على أرض صلبة، تساعدها على نقل البلاد إلى شاطئ الأمان. ولن يحصل ذلك، إلا عندما يتم التمييز بين الصراع السياسي والفكري الذي أرهق البلاد، وقسّم التونسيين وعمّق الهوة بينهم، وبين التمسك بالعلاقات الإنسانية التي تعتبر بمثابة الإسمنت الذي يسند المجتمع، ويحميه من الانهيار والتفكك. فالشخص لا يحاسب على موقفه السياسي، مهما كان إذا واجهه مرض، أو داهمته مصيبة، لأن المجتمع يبقى موحداً في المصائب والمناسبات السعيدة، أما إذا انهار هذا السقف، وتنكر الجميع للجميع، عندها يتحول المجتمع الواحد إلى قبائل متناحرة، لا يجمع بين أفرادها إلا الولاء لفصيلة الدم.
وأن تأتي الخطوة الأولى في هذا الاتجاه التصالحي من الإسلاميين فهذا مؤشر إيجابي، يحمل، في طياته، رسالة مطمئنة، يؤكد مضمونها على أن جزءاً منهم على الأقل ليس هدفهم إشعال حرب عقائدية متواصلة مع الذين يخالفونهم الرأي وفهم الدين، كما يفعل من يسمون أنفسهم أنصار "السلفية الجهادية"، وإنما هم، أي الإسلاميون المعتدلون في السياسة وفي العقائد، جزء من كل، ويجمعهم مع البقية وطن واحد وقيم مواطنية مشتركة. ولعل هذا من الدروس التي استخلصتها حركة النهضة من تجربتها في الحكم، وجعلها اليوم تكون حريصة على توجيه رسائل طمأنة متتالية لخصومها، عساهم يفتحون معها صفحة جديدة.