28 أكتوبر 2024
حروب ساخنة
على الرغم من الإعلان الرسمي عن تصفية "داعش" في العراق، وتراجعه في أرجاء واسعة من سورية، إلّا أنَّ المؤشرات المتاحة لا تبشر بأنَّ 2018 سيكون عامًا يعود فيه الهدوء إلى منطقتنا العربية التي أصبحت تعجّ بالقوات الأجنبية وقواعدها، والتي تنقل معها صراعاتها الدولية والإقليمية إلى أرضنا وسمائنا، وتحاول عبرها أن تنتزع نقطةً هنا وأخرى هناك، لتحسين مواقعها في ساحات الصراع المحتدم بينها.
ثمّة سمة سائدة في ميزان القوى الدولي، تتعلّق بالدور المتزايد للمحاور والدول الإقليمية في الصراعات الدائرة في مناطقها. ومنذ بداية عهد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، يُلاحَظ عودة أجواء الحرب الباردة وسباق التسلّح، بعد أن تمكّنت روسيا بوتين من التقاط أنفاسها، والعودة إلى الساحة الدولية، وظهور الصين قوة عظمى تنافس على المركز الأول أو الثاني، وأوروبا قوة موحدة مستقلة جزئيًا عن السياسة الأميركية، إضافة إلى الدول الإقليمية الصاعدة في آسيا وأميركا الجنوبية.
وسط ذلك كله، تختفي المنظومة العربية من دائرة الفعل والتأثير في منطقتها، ويزداد الاستبداد المتحالف مع الفساد والتحريض الطائفي والمذهبي، ويوفر حاضنةً مثاليةً للأفكار المتطرّفة التي وإن اختفت فترة فإنَّ تربتها الخصبة ستثمر أشكالًا مختلفة منها، ما تلبث أن تفاجئنا. في حين تعود بلادنا إلى عهد القواعد العسكرية على ثراها، بعد أن كان هذا يعدّ من المحرمات، فتنتشر تلك القواعد؛ أميركية وروسية وتركية وإيرانية، في العراق وسورية، وتتحالف القوى الكبرى، أو تتصارع، ومعها الدول الإقليمية، لتحقق مكاسب لها أو تعوّض هزائم مُنيت بها في أماكن أخرى، وترسم عبر ذلك مستقبل منطقةٍ غاب عنها أصحابها.
ووسط هذا الصراع، يأتي مشروع ترامب الهادف إلى إعادة الدور الإسرائيلي شريكا فاعلا للنظام العربي الرسمي في المنطقة، عبر تجاهل القضية الفلسطينية وفرض تصفيتها، واعتبار إيران الخطر الرئيس الذي تتحالف لمواجهته إسرائيل وأقطار عربية، بما يضمن استخدام القوة الإسرائيلية لحماية هذه الأقطار من المخاطر الداخلية، والتصدّي للنفوذ الإيراني المتصاعد.
السياسة الترامبية، وعودة إسرائيل لتأدية دور الشرطي، ومحاولة تصفية القضية الفلسطينية، لا تبشر بهدوء قادم، بل بتصاعدٍ في التوتر وعدم استقرار في مناطق ودول تظنّ نفسها في منأى عمّا تفعل، وتزداد احتمالات نشوب الحروب الصغيرة والكبيرة.
شهدنا، في الأيام القليلة الماضية، نموذجًا مصغرًا لما يمكن أن يحدث حين أُسقطت طائرة إف 16 إسرائيلية بصاروخ سام 5، بعد عشرات الغارات الإسرائيلية الناجحة على سورية، خلال الأعوام الماضية، بذريعة ضرب خطوط إمداد حزب الله. ووصف معلّقون إسقاط الطائرة بأنّه أكبر من معركة وأصغر من حرب. لكن، في أي إطارٍ يمكن وضع ذلك؟ هل هو ردّ، نُفّذ بضوء أخضر روسي، على إسقاط طائرة السوخوي الروسية بصاروخ ستينغر أميركي الصنع، ومهاجمة قاعدة جوية روسية بطائراتٍ يُتحكم بها عن بعد، فجاء الردّ عبر "غرفة عمليات حلفاء سورية"، وهي الجهة التي تبنّت هذه المواجهة، قبل أن يصدر أي بلاغ رسمي سوري. وهل هذا هو سبب الردّ الإسرائيلي الباهت الذي شنّ غاراتٍ عدة على مواقع إيرانية في سورية؟
لكنّ اللافت أنَّ القصف كان في محيط هذه المواقع، ربما للاكتفاء بإعطاء إشارة وتجنب التصعيد، أكان ذلك مع الإيرانيين أم مع الروس، أم هو يندرج في إطار المواجهة الإيرانية الإسرائيلية التي تزداد احتمالاتها مع قرب إعلان تفصيلات صفقة ترامب، إذ يحتاج الحلف العربي الرسمي مع إسرائيل لمواجهة إيران إلى ساحاتٍ لخوض المعارك للحدّ من النفوذ الإيراني، وهذه لن تكون مطابقة للعبة الإلكترونية التي انتشرت، حيث يظهر فيها ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، يقود هجومًا مباشرًا على إيران. لذا، من المرجح أن تقع المواجهة على ساحاتٍ فرعية، قد تكون سورية ولبنان وقطاع غزة، حيث يمكن لإسرائيل التدخل بحريةٍ أكبر. كما أنَّ مواجهة إسرائيل عليها ستشكّل نقطة قوة للمحور الإيراني الذي سيواجه العدو الإسرائيلي، في وقتٍ يتراجع فيه النظام العربي عن هذه المواجهة.
من المعروف أنَّ صاروخ سام 5 قديم، دخل الخدمة في سورية عام 1983، بعد أن فشلت منظومات سام 2 وسام 3 في التصدي للطيران الإسرائيلي خلال حرب 1982. وتمكّن، في ذلك الوقت، من إسقاط طائرتين إسرائيليتين، ما أعاد بعض الاعتبار لمنظومة الدفاع الجوي
الروسية السورية. لكن كيف تمكّن من إسقاط طائرة إف 16 أميركية الصنع بعد كل هذه الأعوام؟ على اعتبار أنّه من جيلٍ قد فات وقته، وتبعته أجيال أخرى من الصواريخ، مثل منظومات إس 300 وإس 600 التي تحمي القواعد الروسية في سورية.
تفيد تقارير متداولة بأنَّ ما حدث كمين أُعدّ بإتقان، وبتخطيط وتنفيذ إيرانيين، إذ أُطلقت طائرة مسيّرة يُتحكم بها عن بعد باتجاه الأراضي الفلسطينية، تصدّت لها طائرتان إسرائيليتان، تولت إحداهما مهمة إطلاق صاروخ، فيما تولت الأخرى توجيه الصاروخ، ولحظتها أُطلق أكثر من 25 صاروخ سام 5 باتجاه هذه الطائرة فأُسقطت. وفي منظومات الدفاع الجوي التقليدية، لا يُطلق سوى صاروخين باتجاه أي طائرةٍ معادية، وليس معتادًا حشد هذا الكم من الصواريخ باتجاه طائرة واحدة، وهنا المفاجأة، ويبدو واضحًا أنَّ هذا العمل كان مخططًا ومدروسًا.
من المبكّر الحديث عن أنّ هذه المواجهة قد وضعت قواعد اشتباك جديدة ستحدّ من التدخل الإسرائيلي في سورية، أو أنّها أنهت التفاهم الروسي الإسرائيلي الذي يتيح مساحة للضربات الجوية الإسرائيلية. أمّا الحديث عن شلّ قدرة الطيران الصهيوني نتيجة لإسقاط طائرة إف 16، على أهميته، نظرًا للقدرات التقنية العالية التي تتمتع بها، فلا يستند إلى مقوماتٍ فعلية، ويتجاوز الإطار المحدود للمعركة الناجحة التي حدثت.
الاستنتاج المتاح حاليًا أنَّ إيران تحاول أن ترسخ وضعها جزءا من المعادلة، تمامًا كما فعلت تركيا في عملية غصن الزيتون، وأنَّ ساحات المواجهة قد بدأت تُفتح، وأنَّ احتمالات المعارك التي قد تمتد إلى حروبٍ صغيرة قد اتسعت. تتزامن في ذلك محاولة إحراز نقاط على الصعيد العسكري، أو فرض حلول سياسية، وإقامة تحالفاتٍ جديدة. لكن، وبلا أدنى شك، فإنَّ عملية الحسم في الحروب وحدها ما عادت قائمة، وإنَّ الجيش الإسرائيلي، على الرغم من قوته النارية الهائلة، عاجز عن التقدّم على الأرض، وتحقيق حسم كافٍ، كما هو حال الحروب العربية الإسرائيلية منذ عام 1948 وحتى 1982. وإنَّ جبهته الداخلية رخوةٌ، لن تقوى على الصمود طويلًا. وإنَّ مبادرة الرئيس دونالد ترامب تحمل في داخلها بذور انهيارها، لو توفر الحدّ الأدنى من الإرادة الفلسطينية والعربية.
عام 2018 ساخن بامتياز، لكن ما زالت تنقصه الإرادة العربية على المواجهة. وهو عام ستمتد آثاره إلى ما بعده.
ثمّة سمة سائدة في ميزان القوى الدولي، تتعلّق بالدور المتزايد للمحاور والدول الإقليمية في الصراعات الدائرة في مناطقها. ومنذ بداية عهد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، يُلاحَظ عودة أجواء الحرب الباردة وسباق التسلّح، بعد أن تمكّنت روسيا بوتين من التقاط أنفاسها، والعودة إلى الساحة الدولية، وظهور الصين قوة عظمى تنافس على المركز الأول أو الثاني، وأوروبا قوة موحدة مستقلة جزئيًا عن السياسة الأميركية، إضافة إلى الدول الإقليمية الصاعدة في آسيا وأميركا الجنوبية.
وسط ذلك كله، تختفي المنظومة العربية من دائرة الفعل والتأثير في منطقتها، ويزداد الاستبداد المتحالف مع الفساد والتحريض الطائفي والمذهبي، ويوفر حاضنةً مثاليةً للأفكار المتطرّفة التي وإن اختفت فترة فإنَّ تربتها الخصبة ستثمر أشكالًا مختلفة منها، ما تلبث أن تفاجئنا. في حين تعود بلادنا إلى عهد القواعد العسكرية على ثراها، بعد أن كان هذا يعدّ من المحرمات، فتنتشر تلك القواعد؛ أميركية وروسية وتركية وإيرانية، في العراق وسورية، وتتحالف القوى الكبرى، أو تتصارع، ومعها الدول الإقليمية، لتحقق مكاسب لها أو تعوّض هزائم مُنيت بها في أماكن أخرى، وترسم عبر ذلك مستقبل منطقةٍ غاب عنها أصحابها.
ووسط هذا الصراع، يأتي مشروع ترامب الهادف إلى إعادة الدور الإسرائيلي شريكا فاعلا للنظام العربي الرسمي في المنطقة، عبر تجاهل القضية الفلسطينية وفرض تصفيتها، واعتبار إيران الخطر الرئيس الذي تتحالف لمواجهته إسرائيل وأقطار عربية، بما يضمن استخدام القوة الإسرائيلية لحماية هذه الأقطار من المخاطر الداخلية، والتصدّي للنفوذ الإيراني المتصاعد.
السياسة الترامبية، وعودة إسرائيل لتأدية دور الشرطي، ومحاولة تصفية القضية الفلسطينية، لا تبشر بهدوء قادم، بل بتصاعدٍ في التوتر وعدم استقرار في مناطق ودول تظنّ نفسها في منأى عمّا تفعل، وتزداد احتمالات نشوب الحروب الصغيرة والكبيرة.
شهدنا، في الأيام القليلة الماضية، نموذجًا مصغرًا لما يمكن أن يحدث حين أُسقطت طائرة إف 16 إسرائيلية بصاروخ سام 5، بعد عشرات الغارات الإسرائيلية الناجحة على سورية، خلال الأعوام الماضية، بذريعة ضرب خطوط إمداد حزب الله. ووصف معلّقون إسقاط الطائرة بأنّه أكبر من معركة وأصغر من حرب. لكن، في أي إطارٍ يمكن وضع ذلك؟ هل هو ردّ، نُفّذ بضوء أخضر روسي، على إسقاط طائرة السوخوي الروسية بصاروخ ستينغر أميركي الصنع، ومهاجمة قاعدة جوية روسية بطائراتٍ يُتحكم بها عن بعد، فجاء الردّ عبر "غرفة عمليات حلفاء سورية"، وهي الجهة التي تبنّت هذه المواجهة، قبل أن يصدر أي بلاغ رسمي سوري. وهل هذا هو سبب الردّ الإسرائيلي الباهت الذي شنّ غاراتٍ عدة على مواقع إيرانية في سورية؟
لكنّ اللافت أنَّ القصف كان في محيط هذه المواقع، ربما للاكتفاء بإعطاء إشارة وتجنب التصعيد، أكان ذلك مع الإيرانيين أم مع الروس، أم هو يندرج في إطار المواجهة الإيرانية الإسرائيلية التي تزداد احتمالاتها مع قرب إعلان تفصيلات صفقة ترامب، إذ يحتاج الحلف العربي الرسمي مع إسرائيل لمواجهة إيران إلى ساحاتٍ لخوض المعارك للحدّ من النفوذ الإيراني، وهذه لن تكون مطابقة للعبة الإلكترونية التي انتشرت، حيث يظهر فيها ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، يقود هجومًا مباشرًا على إيران. لذا، من المرجح أن تقع المواجهة على ساحاتٍ فرعية، قد تكون سورية ولبنان وقطاع غزة، حيث يمكن لإسرائيل التدخل بحريةٍ أكبر. كما أنَّ مواجهة إسرائيل عليها ستشكّل نقطة قوة للمحور الإيراني الذي سيواجه العدو الإسرائيلي، في وقتٍ يتراجع فيه النظام العربي عن هذه المواجهة.
من المعروف أنَّ صاروخ سام 5 قديم، دخل الخدمة في سورية عام 1983، بعد أن فشلت منظومات سام 2 وسام 3 في التصدي للطيران الإسرائيلي خلال حرب 1982. وتمكّن، في ذلك الوقت، من إسقاط طائرتين إسرائيليتين، ما أعاد بعض الاعتبار لمنظومة الدفاع الجوي
تفيد تقارير متداولة بأنَّ ما حدث كمين أُعدّ بإتقان، وبتخطيط وتنفيذ إيرانيين، إذ أُطلقت طائرة مسيّرة يُتحكم بها عن بعد باتجاه الأراضي الفلسطينية، تصدّت لها طائرتان إسرائيليتان، تولت إحداهما مهمة إطلاق صاروخ، فيما تولت الأخرى توجيه الصاروخ، ولحظتها أُطلق أكثر من 25 صاروخ سام 5 باتجاه هذه الطائرة فأُسقطت. وفي منظومات الدفاع الجوي التقليدية، لا يُطلق سوى صاروخين باتجاه أي طائرةٍ معادية، وليس معتادًا حشد هذا الكم من الصواريخ باتجاه طائرة واحدة، وهنا المفاجأة، ويبدو واضحًا أنَّ هذا العمل كان مخططًا ومدروسًا.
من المبكّر الحديث عن أنّ هذه المواجهة قد وضعت قواعد اشتباك جديدة ستحدّ من التدخل الإسرائيلي في سورية، أو أنّها أنهت التفاهم الروسي الإسرائيلي الذي يتيح مساحة للضربات الجوية الإسرائيلية. أمّا الحديث عن شلّ قدرة الطيران الصهيوني نتيجة لإسقاط طائرة إف 16، على أهميته، نظرًا للقدرات التقنية العالية التي تتمتع بها، فلا يستند إلى مقوماتٍ فعلية، ويتجاوز الإطار المحدود للمعركة الناجحة التي حدثت.
الاستنتاج المتاح حاليًا أنَّ إيران تحاول أن ترسخ وضعها جزءا من المعادلة، تمامًا كما فعلت تركيا في عملية غصن الزيتون، وأنَّ ساحات المواجهة قد بدأت تُفتح، وأنَّ احتمالات المعارك التي قد تمتد إلى حروبٍ صغيرة قد اتسعت. تتزامن في ذلك محاولة إحراز نقاط على الصعيد العسكري، أو فرض حلول سياسية، وإقامة تحالفاتٍ جديدة. لكن، وبلا أدنى شك، فإنَّ عملية الحسم في الحروب وحدها ما عادت قائمة، وإنَّ الجيش الإسرائيلي، على الرغم من قوته النارية الهائلة، عاجز عن التقدّم على الأرض، وتحقيق حسم كافٍ، كما هو حال الحروب العربية الإسرائيلية منذ عام 1948 وحتى 1982. وإنَّ جبهته الداخلية رخوةٌ، لن تقوى على الصمود طويلًا. وإنَّ مبادرة الرئيس دونالد ترامب تحمل في داخلها بذور انهيارها، لو توفر الحدّ الأدنى من الإرادة الفلسطينية والعربية.
عام 2018 ساخن بامتياز، لكن ما زالت تنقصه الإرادة العربية على المواجهة. وهو عام ستمتد آثاره إلى ما بعده.