09 نوفمبر 2024
حروب لبنان والبحث عن "الآخر"
ليست الأفلام السينمائية المرتبطة بتاريخ دموي وصادم، في بلد ما في عقودٍ ماضية، سوى نقطة خاضعة لنقاش وجدال طويلين، خصوصاً إذا كانت مفاعيل هذه الحرب لم تنتهِ بعد، وأسبابها لم تُعالج، والمصالحة الفعلية لم تتمّ، والأهم هو أن كثيرين من أهلها ما زالوا على قيد الحياة. وفي لبنان، فيلم "قضية رقم 23"، كما فيلم "بيروت الغربية"، لمخرجهما زياد دويري، ليسا مجرّد محطتين عابرتين، بغضّ النظر عن نقدٍ سينمائي أو انتقاد لنصوصٍ محددة، وبمعزل عن الإعجاب أو عدمه. شكلا محاولتين فعليتين لخوض نقاش مجتمعي، يمهّد لمعالجاتٍ غير مبتذلة، عبر طرح كل شيء على طاولة البحث.
ليس المطلوب أفلاما تمجّد مجرمين، ولا أفلاما موجّهة ضد أطراف محدّدة. أبداً. ليست غاية الأفلام في الحالة اللبنانية، مع كل تشعّباتها السورية والفلسطينية والإسرائيلية والإيرانية والعربية، أن تكون مثل "لائحة شيندلر" أو "ميونيخ" وتظهر تعاطفاً زائداً، سواء بحجة أن "الآخر هو المعتدي"، أو "لأننا دائماً على حق". غاية الأفلام في لبنان، وفي وضع كحروب لبنان، أن تؤدي إلى نقاش يستلزم الخروج من "الأنا" النمطية، والمتراكمة بمحطاتها المتلاحقة، إلى درجة تشكيلها جداراً لا يمكننا رؤية الآخر عبره، سوى باعتباره "عدوا يُستلزم قتله". الخروج من "الأنا" في اعتبار أنفسنا "على حقّ" يُعتبر خطوة أولى في طريق المصالحة مع الذات. لا يمكننا إسقاط نمطيةٍ دائمةٍ على مطلق شخص، فقط لأنه ينتمي قومياً أو مناطقياً أو طائفياً إلى بلدٍ أو منطقةٍ أو مذهبٍ ما. هذه النمطية، إن تُركت على قيد الحياة، ستدفن كل شيء، بما فيها العقائد السياسية، الداعية إلى التطور والقضاء على الجمود التفكيري. النمطية هنا أكبر مدمّر لهذا النوع من الحراك.
ليست حرب لبنان أساساً تفصيلاً صغيراً في شرقٍ دامٍ، بل أقرب إلى صورةٍ عن قتلٍ تامّ للوعي الذاتي، فالأغلبية الساحقة من المقيمين في لبنان عانوا من هذه الحرب، خصوصاً يومياتها المعيشة، تحديداً جيل "الذين شاهدوا البلاد تدخل الحرب"، والجيل الذي عاش طفولته في أتونها. هؤلاء خصوصاً، قد يكون صعبا عليهم الخروج من قالب يوجدون فيه، لكنهم إن خرجوا، ففي وسعهم تغيير العالم في محيطهم الاجتماعي. أما المنظّرون من علياءٍ ما وبصورة "فوقية" فاقعة، لأسباب سياسية أو غيرها، فهؤلاء إما عاشوا حياة وردية سابقاً، أو أن هناك غايات ترفض تحقيق المصالحة، وتطغى عليهم.
سهل جداً أن تقول "هذا يميني" و"هذا يساري"، أو "هذا مسلم" و"هذا مسيحي"، وغيرها من المفردات الدالّة على هوية دينية ـ عرقية ـ مناطقية، غير أنه ليست سهلةً رؤية "هذا" كما نرى "ذاتنا"، مع أن ذلك هو الأساس في أي خطوةٍ انعطافية تسمح بمواصلة حياتنا بسلامٍ داخلي، من دون الحاجة لاستنفار أبدي، يؤدي إلى تناسل الحروب إلى نسخ ثانية وثالثة ورابعة.
ماذا بعد؟ اعتدنا منذ انتهاء الحرب في لبنان (1975 ـ 1990)، على تخوين بعضنا بعضا، وتحميل الآخر مسؤولية خيارات أطراف سياسية. حتى أن بعضهم ينظر إلى الآخر "شزراً" بأنه "السبب" في مشكلاته الاجتماعية والنفسية والاقتصادية. وقد يكون هذا "الآخر" طفلا عابرا، أو رجلا يعمل بجهدٍ بأجرٍ قليل، أو سيدة تهتم بشؤونها. ليس هذا "الآخر" زعيماً سياسياً ولا مقاتلاً عسكرياً. هو إنسان عانى ويعاني، كما غيره، من سلبيات حرب لبنان، ومن غرقها في دوامة من الجلد الذاتي المتواصل.
لا خيار لدينا للخروج من الإلغاء الذاتي سوى بوضع أنفسنا مكان "الآخر": "لماذا يقول ذلك؟ لماذا يفعل ذلك؟ ما هي التراكمات السلبية التي طاولت جوهر حياته؟ لماذا يكرهنا؟ لماذا يحبنا؟". أسئلة عدة يُمكن طرحها، كما تسأل نفسك. أما الحوارات السياسية العامة والخيارات "الوطنية" الكبرى، فمادّة لا تموت، لكنها قادرة على قتل جوهر إنسان وتركه حياً بالجسد.
ليس المطلوب أفلاما تمجّد مجرمين، ولا أفلاما موجّهة ضد أطراف محدّدة. أبداً. ليست غاية الأفلام في الحالة اللبنانية، مع كل تشعّباتها السورية والفلسطينية والإسرائيلية والإيرانية والعربية، أن تكون مثل "لائحة شيندلر" أو "ميونيخ" وتظهر تعاطفاً زائداً، سواء بحجة أن "الآخر هو المعتدي"، أو "لأننا دائماً على حق". غاية الأفلام في لبنان، وفي وضع كحروب لبنان، أن تؤدي إلى نقاش يستلزم الخروج من "الأنا" النمطية، والمتراكمة بمحطاتها المتلاحقة، إلى درجة تشكيلها جداراً لا يمكننا رؤية الآخر عبره، سوى باعتباره "عدوا يُستلزم قتله". الخروج من "الأنا" في اعتبار أنفسنا "على حقّ" يُعتبر خطوة أولى في طريق المصالحة مع الذات. لا يمكننا إسقاط نمطيةٍ دائمةٍ على مطلق شخص، فقط لأنه ينتمي قومياً أو مناطقياً أو طائفياً إلى بلدٍ أو منطقةٍ أو مذهبٍ ما. هذه النمطية، إن تُركت على قيد الحياة، ستدفن كل شيء، بما فيها العقائد السياسية، الداعية إلى التطور والقضاء على الجمود التفكيري. النمطية هنا أكبر مدمّر لهذا النوع من الحراك.
ليست حرب لبنان أساساً تفصيلاً صغيراً في شرقٍ دامٍ، بل أقرب إلى صورةٍ عن قتلٍ تامّ للوعي الذاتي، فالأغلبية الساحقة من المقيمين في لبنان عانوا من هذه الحرب، خصوصاً يومياتها المعيشة، تحديداً جيل "الذين شاهدوا البلاد تدخل الحرب"، والجيل الذي عاش طفولته في أتونها. هؤلاء خصوصاً، قد يكون صعبا عليهم الخروج من قالب يوجدون فيه، لكنهم إن خرجوا، ففي وسعهم تغيير العالم في محيطهم الاجتماعي. أما المنظّرون من علياءٍ ما وبصورة "فوقية" فاقعة، لأسباب سياسية أو غيرها، فهؤلاء إما عاشوا حياة وردية سابقاً، أو أن هناك غايات ترفض تحقيق المصالحة، وتطغى عليهم.
سهل جداً أن تقول "هذا يميني" و"هذا يساري"، أو "هذا مسلم" و"هذا مسيحي"، وغيرها من المفردات الدالّة على هوية دينية ـ عرقية ـ مناطقية، غير أنه ليست سهلةً رؤية "هذا" كما نرى "ذاتنا"، مع أن ذلك هو الأساس في أي خطوةٍ انعطافية تسمح بمواصلة حياتنا بسلامٍ داخلي، من دون الحاجة لاستنفار أبدي، يؤدي إلى تناسل الحروب إلى نسخ ثانية وثالثة ورابعة.
ماذا بعد؟ اعتدنا منذ انتهاء الحرب في لبنان (1975 ـ 1990)، على تخوين بعضنا بعضا، وتحميل الآخر مسؤولية خيارات أطراف سياسية. حتى أن بعضهم ينظر إلى الآخر "شزراً" بأنه "السبب" في مشكلاته الاجتماعية والنفسية والاقتصادية. وقد يكون هذا "الآخر" طفلا عابرا، أو رجلا يعمل بجهدٍ بأجرٍ قليل، أو سيدة تهتم بشؤونها. ليس هذا "الآخر" زعيماً سياسياً ولا مقاتلاً عسكرياً. هو إنسان عانى ويعاني، كما غيره، من سلبيات حرب لبنان، ومن غرقها في دوامة من الجلد الذاتي المتواصل.
لا خيار لدينا للخروج من الإلغاء الذاتي سوى بوضع أنفسنا مكان "الآخر": "لماذا يقول ذلك؟ لماذا يفعل ذلك؟ ما هي التراكمات السلبية التي طاولت جوهر حياته؟ لماذا يكرهنا؟ لماذا يحبنا؟". أسئلة عدة يُمكن طرحها، كما تسأل نفسك. أما الحوارات السياسية العامة والخيارات "الوطنية" الكبرى، فمادّة لا تموت، لكنها قادرة على قتل جوهر إنسان وتركه حياً بالجسد.