04 نوفمبر 2024
حرية الصحافة في تونس.. والانتقال الديمقراطي
احتفلت تونس يوم 3 مايو/ أيار الجاري باليوم العالمي لحرية الصحافة، وقد حلت، حسب تصنيف منظمة مراسلون بلا حدود في المرتبة 97، وهو رقم لا يعكس تماما ما يفترض أن تكون عليه بلادٌ تعبر سنتها السابعة من تحولها الديمقراطي، وذلك ما يدعونا إلى كثير من التواضع، والإقرار بأن عقباتٍ عديدة لا يزال على تونس ومختلف النخب تجاوزها، من أجل ترسيخ حرية الإعلام لدعم المسار الديمقراطي الذي تطويه البلاد بمشقة وعسر.
يواجه الإعلام والصحافة صعوبات عديدة، تجعلهما في وضع معتل، على نحو ما ذكرت تقارير تلك المنظمات الدولية، ولكن على خلاف بعض الوصفات والتهم الجاهزة التي تلخص أسباب علتهما في الاستبداد وتدخل السلطة، فإن فهم الوضع التونسي يستدعي تجاوز هذا التبسيط المخل الذي قد يصلح لتفسير وضعياتٍ أخرى، لم تنجز فيها البلدان انتقالا ديمقراطيا، كالذي تشهده تونس، على الرغم من إخفاقاتٍ عديدة رافقته. لن نختلف مع ما أشارت إليه التقارير نفسها من أن اعتداء أجهزة الأمن على الصحافيين خصوصا، والتشريعات المتشدّدة وغير المتلائمة مع المعايير الدولية، تظل من الأسباب المهمة في فهم هذا الوضع المقلق. ولكن علينا أن نستدعي مقارباتٍ جديدة تأخذ بالاعتبار جدة المرحلة التي تمر بها البلاد، فضلا على تغير المشهد الإعلامي بشكل يكاد يكون جذريا، ما يستدعي، في اعتقادي، استحضار عوامل عديدة أخرى لا تقل أهمية عما ذكرنا سابقا.
خلال سبع سنوات، تضاعف عدد الصحف المكتوبة والقنوات الإذاعية والتلفزية الخاصة، وحتى العمومية، عشرات المرات عما كان عليه قبل الثورة، وانتشرت بشكل منقطع النظير المواقع
والمدونات والصحف الإلكترونية. ولم تشهد تونس، طوال هذه الفترة، سوى حالات محدودة من "الرقابة" أو المحاكمات التي تصدّى لها الرأي العام، وقد أنصف القضاء عادة المتهمين فيها. الجديد أن هذه التجاوزات أصبحت تشكل اعتداءً على حقوق عموم المواطنين، وليس على الصحافيين فقط. ولكن علينا أن نقر أيضا بأنه في أقل من سنة اختفت ثلاث صحف مكتوبة، أما العدد الإجمالي للصحف التي اختفت مند الثورة فقد بلغ العشرات لأسباب عديدة، منها المنافسة التي تواجهها الأخيرة من الإعلام المواطني الإلكتروني وغيرها من تحولات الممارسة "القرائية" للمواطنين، تحت تأثير الميديا الجديدة، من دون أن نغفل مسألة الفساد الذي ينخر هذا القطاع، في غياب قوانين تضمن حقوق العاملين من إعلاميين وتقنيين وغيرهم.
على خلاف الصورة التي قد تلوح أول وهلة، وتمنح انطباعا غير دقيق، مفاده أن الإعلام التونسي حر، فيما يعرف معضلات مركبة، لا بد أن تكون لدى التونسيين الشجاعة لبسطها. فقد كانت حرية الإعلام من هدايا الثورة، واستفاد منها حتى خصومها وأعداؤها، ذلك أن الأصوات التي تناهض الثورة وتشوهها حاليا ما كان لها أن تبلغ مواقفها، لولا هذه الثورة وحرية الإعلام تحديدا، غير أن ما يعرقله ويجعل البلاد تحتل تلك المرتبة المتدنية لا يعود إلى الخصم التقليدي، أي السلطة السياسية، كما هو في حال الأنظمة الاستبدادية، فالأمر معقد وهيكلي، ولا يمكن، كما أشير سابقا، اختزاله في السلطة السياسية تلك، فالقوانين ظلت إلى حد الآن غير كافية، خصوصا وقد تم سنها على عجل، أي مباشرة بعيد السقوط النظام (المرسوم عدد 115 لسنة 2011)، ما يؤكد ضرورة مراجعتها، خصوصا بعد أن استكملت تونس أو تكاد بناء مؤسساتها الدستورية (المجلس الأعلى للقضاء، قريبا المحكمة الدستورية.. إلخ)، على ضوء تقييم المرحلة الماضية بكل إيجابياتها وسلبياتها، ففي التشريعات التي سنت خلال تلك الفترة كان هاجس المشرع تخليص الصحافة من هيمنة السلطة السياسية وتدخلها السافر في الخط التحريري، حتى تكون تحت رقابتها. ولكن يبدو أن الأمر غدا أكثر تعقيدا والتباسا، وأن رفع الدولة يدها عن الإعلام لا يعني بالضرورة تحقق حريته واستقلاليته، فقد نشأت بعد الثورة مراكز نفوذ مالية وسياسية، لا تقل خطورة على حرية الصحافة من تدخل السلطة السياسية تحديدا، فهذه اليد الخفية لا يمكن أن تظل مطلقة خارج التشريعات. وقد شاهدنا وما زلنا كيف استطاع أباطرة المال الفاسد أن يشيدوا ثكنات إعلامية أقوى من مؤسسات الدولة، واخترقوها بهذا الإعلام حتى عاد لهم "ممثلون" في البرلمان، ووزعوا وكلاء لهم في مفاصل الدولة، وتشهد الملفات المعروضة حاليا على القضاء على دقة هذا الوضع الخطير.
وتبدو الهيئات التعديلية التي أنشئت بعد الثورة، على غرار الهيئة العليا المستقلة للإعلام السمعي والبصري، عاجزة عن القيام بأدوارها، لأسباب عدة، منها ما يعود إلى قلة الإمكانات والموارد،
ومنها ما يعود أيضا إلى غياب سياسة واضحة وجرأة كافية في التعاطي مع الملفات العديدة، وذلك ما دفع العديد من أباطرة الإعلام الفاسد إلى الاستهانة بقراراتها، خصوصا إذا أخذنا بالاعتبار الوضع المادي الهش الذي هي عليه فئات واسعة من الإعلاميين الذين هم في ظروف مزرية تؤشر عليها العقود الهشة وغياب التشريعات التي تمنحهم حدا أدنى من الكرامة، يكون عرضة للابتزاز والضغط المستمر. وقد رأينا رجال أعمال فاسدين، يمتلكون رقاب الإعلاميين، ويتباهون بذلك، ويصفونهم في برامج تلفزية بأبشع النعوت. ويقول هؤلاء بكل صلف حقائق مخجلة وصادمة، لكنها جزء من مشهد إعلامي رشّح تونس إلى تلك المرتبة.
منذ أسبوعين، وفي أقل من يومين، ازدانت أغلب الصحف والبلاتوات الإعلامية بموقف ستين "مؤرخا" تونسيا ناهضوا هيئة الحقيقة والكرامة، وتم استدعاؤهم إلى هنا وهناك، ضيوفا مبجلين في برامج إعلامية، وصنعت بذلك "الحدث" ضمن أجندة واضحة. وجه هذا الإعلام الرأي العام وأثر حتى على القرار السياسي (رئيس الجمهورية يلتقي بعض المؤرخين... إلخ). يرفض هذا الإعلام نفسه حاليا حتى مجرد نشر عريضةٍ، تضم أكثر من 300 جامعي ومثقف ينتصرون للعدالة الانتقالية، ويحذرون من خطورة الانقلاب على مسارها.
المشهد أكثر التباسا، وهو عائد، في جزء كبير منه، إلى عمق ثقافة الإعلامي وضميره ومهنيته. يقع الخلل أيضا هنا في هذه البئر العميقة والمهجورة من تحاليلنا عادة.
يواجه الإعلام والصحافة صعوبات عديدة، تجعلهما في وضع معتل، على نحو ما ذكرت تقارير تلك المنظمات الدولية، ولكن على خلاف بعض الوصفات والتهم الجاهزة التي تلخص أسباب علتهما في الاستبداد وتدخل السلطة، فإن فهم الوضع التونسي يستدعي تجاوز هذا التبسيط المخل الذي قد يصلح لتفسير وضعياتٍ أخرى، لم تنجز فيها البلدان انتقالا ديمقراطيا، كالذي تشهده تونس، على الرغم من إخفاقاتٍ عديدة رافقته. لن نختلف مع ما أشارت إليه التقارير نفسها من أن اعتداء أجهزة الأمن على الصحافيين خصوصا، والتشريعات المتشدّدة وغير المتلائمة مع المعايير الدولية، تظل من الأسباب المهمة في فهم هذا الوضع المقلق. ولكن علينا أن نستدعي مقارباتٍ جديدة تأخذ بالاعتبار جدة المرحلة التي تمر بها البلاد، فضلا على تغير المشهد الإعلامي بشكل يكاد يكون جذريا، ما يستدعي، في اعتقادي، استحضار عوامل عديدة أخرى لا تقل أهمية عما ذكرنا سابقا.
خلال سبع سنوات، تضاعف عدد الصحف المكتوبة والقنوات الإذاعية والتلفزية الخاصة، وحتى العمومية، عشرات المرات عما كان عليه قبل الثورة، وانتشرت بشكل منقطع النظير المواقع
على خلاف الصورة التي قد تلوح أول وهلة، وتمنح انطباعا غير دقيق، مفاده أن الإعلام التونسي حر، فيما يعرف معضلات مركبة، لا بد أن تكون لدى التونسيين الشجاعة لبسطها. فقد كانت حرية الإعلام من هدايا الثورة، واستفاد منها حتى خصومها وأعداؤها، ذلك أن الأصوات التي تناهض الثورة وتشوهها حاليا ما كان لها أن تبلغ مواقفها، لولا هذه الثورة وحرية الإعلام تحديدا، غير أن ما يعرقله ويجعل البلاد تحتل تلك المرتبة المتدنية لا يعود إلى الخصم التقليدي، أي السلطة السياسية، كما هو في حال الأنظمة الاستبدادية، فالأمر معقد وهيكلي، ولا يمكن، كما أشير سابقا، اختزاله في السلطة السياسية تلك، فالقوانين ظلت إلى حد الآن غير كافية، خصوصا وقد تم سنها على عجل، أي مباشرة بعيد السقوط النظام (المرسوم عدد 115 لسنة 2011)، ما يؤكد ضرورة مراجعتها، خصوصا بعد أن استكملت تونس أو تكاد بناء مؤسساتها الدستورية (المجلس الأعلى للقضاء، قريبا المحكمة الدستورية.. إلخ)، على ضوء تقييم المرحلة الماضية بكل إيجابياتها وسلبياتها، ففي التشريعات التي سنت خلال تلك الفترة كان هاجس المشرع تخليص الصحافة من هيمنة السلطة السياسية وتدخلها السافر في الخط التحريري، حتى تكون تحت رقابتها. ولكن يبدو أن الأمر غدا أكثر تعقيدا والتباسا، وأن رفع الدولة يدها عن الإعلام لا يعني بالضرورة تحقق حريته واستقلاليته، فقد نشأت بعد الثورة مراكز نفوذ مالية وسياسية، لا تقل خطورة على حرية الصحافة من تدخل السلطة السياسية تحديدا، فهذه اليد الخفية لا يمكن أن تظل مطلقة خارج التشريعات. وقد شاهدنا وما زلنا كيف استطاع أباطرة المال الفاسد أن يشيدوا ثكنات إعلامية أقوى من مؤسسات الدولة، واخترقوها بهذا الإعلام حتى عاد لهم "ممثلون" في البرلمان، ووزعوا وكلاء لهم في مفاصل الدولة، وتشهد الملفات المعروضة حاليا على القضاء على دقة هذا الوضع الخطير.
وتبدو الهيئات التعديلية التي أنشئت بعد الثورة، على غرار الهيئة العليا المستقلة للإعلام السمعي والبصري، عاجزة عن القيام بأدوارها، لأسباب عدة، منها ما يعود إلى قلة الإمكانات والموارد،
منذ أسبوعين، وفي أقل من يومين، ازدانت أغلب الصحف والبلاتوات الإعلامية بموقف ستين "مؤرخا" تونسيا ناهضوا هيئة الحقيقة والكرامة، وتم استدعاؤهم إلى هنا وهناك، ضيوفا مبجلين في برامج إعلامية، وصنعت بذلك "الحدث" ضمن أجندة واضحة. وجه هذا الإعلام الرأي العام وأثر حتى على القرار السياسي (رئيس الجمهورية يلتقي بعض المؤرخين... إلخ). يرفض هذا الإعلام نفسه حاليا حتى مجرد نشر عريضةٍ، تضم أكثر من 300 جامعي ومثقف ينتصرون للعدالة الانتقالية، ويحذرون من خطورة الانقلاب على مسارها.
المشهد أكثر التباسا، وهو عائد، في جزء كبير منه، إلى عمق ثقافة الإعلامي وضميره ومهنيته. يقع الخلل أيضا هنا في هذه البئر العميقة والمهجورة من تحاليلنا عادة.