09 نوفمبر 2024
حرية القتل في لبنان
يطارده بالسيارة عدة كيلومترات. يترجّل منها. يحمل سكيناً ويبدأُ بطعنه أمام عينيّ زوجته، وعابرون يتفرّجون. بعضهم يصوّر المشهد وآخرون يهربون. يموت الضحية، الأب لأربعة أطفال، وتطوي رواية جديدة نفسها في لبنان. ليس هذا مشهداً من فيلم سينمائي، بل واقعة مأسوية شهدتها بيروت، تلك التي صُنّفت "مقصداً سياحياً". لا ليس لهذه الدرجة. في لبنان، يُمكن أن تطارد شخصاً من حيٍّ إلى حيٍّ، وأنت في "كامل وعيك". ولكن، تحت "تأثير المخدّر"، ثم تُرديه، من دون رادع. لا يهمّ السبب، ربما كان "خلافاً على أفضلية مرور" أو لأمر آخر. لا مبررات في أي اعتداء. صدقاً، لن يُحاسبكَ أحد، خصوصاً إذا كنت من المحسوبين على أحد "روّاد" الطبقة السياسية. تُمضي بضعة أيام أو أشهر على الأكثر في السجن، حدّاً أقصى، ثم تخرج وتعود إلى المخدّر، وتقود سيارتك وتعتدي على شخصٍ آخر، من دون محاسبة.
هذا هو الـ"لبنان" الذي نعيش فيه، لا لبنان الذي تُظهره بعض الإعلانات السخيفة أو الكليشيهات المستنسخة. لبناننا جزء من موروث بشع من تناسل حروب أهلية لم تنتهِ أسبابها بعد، لا بل تتوالد أجزاء منها على عجل، في زواريب البلاد وأزقتها ونفوس شعبها. لسنا في صقلية القرن التاسع عشر، ولا في شيكاغو ثلاثينيات القرن الماضي، بل نحن في حاضر أعوج بناه ماضٍ دموي، يستعدّ للقفز في ثقبٍ أسود. من السهل جداً في بلادٍ تدّعي الحريّة أن يرتفع صوت البنادق في كل خلافٍ، فردي أو عائلي أو عشائري، وكأن تلك الحرب اللعينة لم تخرج من يومياتنا بعد.
يرفض بعضهم الاقتناع بأن هذا "اللبنان" قنبلة موقوتة، تتطاير شظاياها يومياً، بل يريد تخيّل أن "الأمور على ما يرام". لا ليست الأمور على ما يرام. هناك قتلى يسقطون كل يوم لأسبابٍ تافهة، منهم من يقتل زوجته لعنفٍ أسري، لم يجد قانوناً له في مجلس النواب، ومنهم من يُقتل برصاص الابتهاج، لأن أحدهم يخطُب أو طالباً نجح في امتحانٍ دراسي، أو ثنائياً يتزوج. كما أن هناك قتلى يسقطون لوجودهم مصادفة على هامش إشكال ما، وهناك قتلى يسقطون بسبب غرامة مالية، يفرضها قانون السير الجديد، كما يسقط قتلى لدى عبور مواكب سياسيي لبنان في طرقاته الضيّقة.
لا، ليست الأمور على ما يرام. لا صيف سياحياً ولا موسم واعداً. كلها تفاصيل تافهة أمام قيمة الإنسان التي تحكمها شريعة الغاب. القيمة نفسها التي غابت لحظة راقب كل من شاهد إشكالاً في بيروت، من دون أن يتدخّل، على أساس أن الأمر لا يعنيه. وهذا النوع من القتل أفظع من القتل الفعلي، لأنه يؤدي إلى استيلاد أجيال قاتلة، بحجّة أن لا ردع سيحصل، ولا من سيحاسب.
ليست الأمور "ديمقراطية" في بلدٍ يمارس ديكتاتورية القتل بحقّ شعبه، والشعب يلحس المبرد. لا تصدّقوا أن "لبنان بلد الحريات"، بل إن تلك الحريات محكومة بسلاحك الذي تملكه، وقدرتك على القتل والنجاة من العقوبة من دون أن تُعاقَب. في لبنان، يُمكن لزعيم شحذ همم أتباعه، الأغنام، لأسباب تافهة، لكنه لا يرغب في تحريك القانون مع نوابٍ آخرين. لا يريدون ذلك أساساً. يريدوننا أن نفني بعضنا في "وطن النجوم".
الأسوأ من هذا كله أن بعضهم، ممّن يُعتبرون "نخبة المجتمع"، من سياسيين وصحافيين وأكاديميين، أو مّمن يدّعون ذلك، يبقون على أهبة الاستعداد لتوصيف مطلق جريمة على أنها "طائفية"، وأن "الثأر حاجة ضرورية"، وأن "على الآخر ألا يجرّبنا"، وغيرها من أدبيات مُستعادة من روحية الحرب. لا يريد أمثال هؤلاء الإيمان بأن "المجرم مجرم"، مهما كانت طائفته أو انتماؤه السياسي، بل يريدون الإبقاء على حواجز موهومة، مماثلة لتلك التي أدت إلى اغتيال إنساننا في الحرب الأهلية اللبنانية. بئس لبنان.
يرفض بعضهم الاقتناع بأن هذا "اللبنان" قنبلة موقوتة، تتطاير شظاياها يومياً، بل يريد تخيّل أن "الأمور على ما يرام". لا ليست الأمور على ما يرام. هناك قتلى يسقطون كل يوم لأسبابٍ تافهة، منهم من يقتل زوجته لعنفٍ أسري، لم يجد قانوناً له في مجلس النواب، ومنهم من يُقتل برصاص الابتهاج، لأن أحدهم يخطُب أو طالباً نجح في امتحانٍ دراسي، أو ثنائياً يتزوج. كما أن هناك قتلى يسقطون لوجودهم مصادفة على هامش إشكال ما، وهناك قتلى يسقطون بسبب غرامة مالية، يفرضها قانون السير الجديد، كما يسقط قتلى لدى عبور مواكب سياسيي لبنان في طرقاته الضيّقة.
لا، ليست الأمور على ما يرام. لا صيف سياحياً ولا موسم واعداً. كلها تفاصيل تافهة أمام قيمة الإنسان التي تحكمها شريعة الغاب. القيمة نفسها التي غابت لحظة راقب كل من شاهد إشكالاً في بيروت، من دون أن يتدخّل، على أساس أن الأمر لا يعنيه. وهذا النوع من القتل أفظع من القتل الفعلي، لأنه يؤدي إلى استيلاد أجيال قاتلة، بحجّة أن لا ردع سيحصل، ولا من سيحاسب.
ليست الأمور "ديمقراطية" في بلدٍ يمارس ديكتاتورية القتل بحقّ شعبه، والشعب يلحس المبرد. لا تصدّقوا أن "لبنان بلد الحريات"، بل إن تلك الحريات محكومة بسلاحك الذي تملكه، وقدرتك على القتل والنجاة من العقوبة من دون أن تُعاقَب. في لبنان، يُمكن لزعيم شحذ همم أتباعه، الأغنام، لأسباب تافهة، لكنه لا يرغب في تحريك القانون مع نوابٍ آخرين. لا يريدون ذلك أساساً. يريدوننا أن نفني بعضنا في "وطن النجوم".
الأسوأ من هذا كله أن بعضهم، ممّن يُعتبرون "نخبة المجتمع"، من سياسيين وصحافيين وأكاديميين، أو مّمن يدّعون ذلك، يبقون على أهبة الاستعداد لتوصيف مطلق جريمة على أنها "طائفية"، وأن "الثأر حاجة ضرورية"، وأن "على الآخر ألا يجرّبنا"، وغيرها من أدبيات مُستعادة من روحية الحرب. لا يريد أمثال هؤلاء الإيمان بأن "المجرم مجرم"، مهما كانت طائفته أو انتماؤه السياسي، بل يريدون الإبقاء على حواجز موهومة، مماثلة لتلك التي أدت إلى اغتيال إنساننا في الحرب الأهلية اللبنانية. بئس لبنان.