همه كبير لكن إيمانه أكبر، وهو ما يساعده في كلّ يوم على وضع الأحداث الأليمة وراءه، ويساعد والدته في الأعمال المنزلية، وخصوصاً أنها مريضة وتحتاج إلى جراحة في المفاصل لا تتوفّر في الغوطة الشرقية المحاصرة منذ ما يزيد عن عامَين. هو حسان تقي الدين، شاب في الرابعة والعشرين من عمره من مدينة دوما، نشأ في بيت متواضع مع والدته وإخوته الأربعة، هو أصغرهم.
بعدما رأى نفسه منخرطاً في الثورة السورية، لم يكمل سنته الدراسية الثانية في كلية الهندسة الميكانيكية والكهربائية في جامعة دمشق. "كان حلمي أن أحصل على الماجستير ومن ثم الدكتوراه وأدرّس في الجامعة، وفي الوقت ذاته تأسيس شركة دراسات وتصاميم وتنفيذ مشاريع هندسية". بدأ ذلك في 23 مارس/ آذار 2011، مع خروج أول تظاهرة كبيرة في دوما مناصرة لدرعا. حينها هتف حسان للحرية، لكنه استغرب جرأته بينما شعر بسعادة كبيرة في الوقت نفسه. وبعد أيام، في الأول من أبريل/ نيسان، خرجت تظاهرة من جامع دوما الكبير، استشهد خلالها رفيق شقيق حسان المقرّب أحمد رجب فواز، وهو بطل سورية في الجودو والكيك بوكسينغ.
وراح حسان ينشط في التصوير وطباعة اللافتات ومستلزمات التظاهرات، مع شقيقه محمد أحد مؤسسي تنسيقية دوما، والذي استشهد في وقت لاحق. وبعد أشهر، داهمت قوات النظام إحدى مزارع العائلة، لتجد جهاز كومبيوتر محمولاً وأرشيف التظاهرات، بالإضافة إلى أجهزة اتصال، لا سيّما تلك الخاصة بشبكة ثريا للاتصالات عبر الأقمار الصناعية. وطلب الإخوة للتحقيق لدى أجهزة الأمن، فاختبأ حسان لفترة وجيزة، قبل أن يعود إلى دوما في نوفمبر/ تشرين الثاني، وينخرط في نشاطات مدنية عديدة منها "إضراب الكرامة".
يعلل حسان مشاركته في الثورة وتخليه عن دراسته وحياته الاجتماعية بأنهما "المتنفس الوحيد للمطالبة بالحقوق، بعد الاحتقان والكبت اللذين عشناهما". كذلك، "كان أخي قد اعتقل لمدة شهرين قبل الثورة بنحو سنتين، بسبب حيازته كتباً إسلامية".
اقرأ أيضاً: خارج عن سلطة "داعش"
وراح حسان يوثّق بكاميرته ضحايا القصف والقنص وأعمال الكتائب العسكرية والمعارك. وأكثر الحوادث التي جرحته في العمق وفي الوقت ذاته علمته كيف يعتمد على نفسه، كانت ثلاث؛ وهي "استشهاد أخي الأكبر محمد نعمان أولاً، ومجزرة الكيماوي ثانياً. رأيت هناك أمهات يبحثن عن أطفالهن بين الجثث، وأباً يبكي عائلته التي قضت بأكملها، وطفلاً صغيراً يختلج أمامك من دون أن تتمكن من فعل أي شيء له. حينها شعرت كم أن العالم حقير وكم أن دماءنا رخيصة". أما الحادثة الثالثة فكانت استشهاد أخيه الإعلامي محمد السعيد ورفيقه حسن هارون (محمد الطيب) بكمين على طريق الجربا، خلال تغطية معركة كسر الحصار. في ذلك اليوم، طلب من أخيه اصطحابه، لكنه رفض قائلاً: يجب أن تبقى هنا في غيابي وتمشّي الأمور. "لكنه ذهب من دون عودة. استشهاده كان نكسة وصدمة كبيرتين. كنا أصدقاء، ولم أكن أفعل شيئاً من دونه". يُذكر أن هذه الحادثة "فتحت لي المجال لأنطلق معتمداً على ذاتي". وصار صحافياً لأكثر من موقع إخباري.
يرى حسان أن الحياة لا بد من أن تستمر، وثمّة فسحة للضحك على الرغم من كل الموت المسجّل في الأمكنة المحاصرة. وفي المساء، "ألعب مع أولاد إخوتي ونسهر في محاولة لنسيان المشاهد التي أكون قد رأيتها صباحاً. حركاتهم وكلامهم وضحكاتهم تنسيني الواقع للحظات".
عندما كان حسان يقصد النقاط الطبية، كان يعجز عن المكوث طويلاً فيها في كثير من الأحيان. وفي بعض المرات، "كدت أفقد وعيي من مشاهد الدماء والأشلاء. أنا في الأساس لم أدرس أي شيء يتعلق بالطب أو الصيدلة على الرغم من مجموع علاماتي العالي، بسبب عدم قدرتي على مشاهدة الدم. لكن مع التكرار، أصبحت المشاهد روتينية". ويحاول حسان نسيان كل ما يصادفه، قبل دخوله المنزل. "أحياناً، تسألني أمي عما حدث وأين ضربت الطائرة وعدد الشهداء. أرفض الإجابة كي لا أسترجع الأحداث وفي الوقت نفسه كي لا أوجع قلبها".
حسان ينشط أيضاً في حملات إعلامية، ويفرح عندما "نوصل صوتنا لمجلس الأمن أو الأمم المتحدة أو لرؤساء الدول الأوروبية في محاولة للفت أنظارهم إلى ما يعانيه الشعب السوري الذي يموت كل ثانية بسبب القصف والحصار". لكن في بعض الأيام، لا يعرف إن كان قادراً على الاستمرار، ثم يتذكّر الشهداء وعذابات المعتقلين، ويستجمع قواه.
كل الأحداث الجارية في منطقته وفي البلاد وانشغاله الدائم بالعمل، "تجعل التفكير بنفسي وبعواطفي وبحاجتي إلى الزواج، بعيداً. لكن الأمر بصراحة، من ضمن أهدافي المستقبلية. أريد تكوين أسرة، لذا لا بد من أن أحب وأرتبط بفتاة في يوم من الأيام. لكن تحمّل مسؤولية أسرة ليس بالأمر السهل، وخصوصاً في ظروفنا الحالية".
اقرأ أيضاً: إياد الجرود.. الناس وحدهم يروون أحداث الثورة السوريّة