أزمة وقود خانقة، وتكدّس للنفايات وسط مدينة المكلا عاصمة المحافظة، وإضراب لمعلمي المدارس، وانقطاعات في الكهرباء، أزمات تحتشد في محافظة تقع على أنهار من النفط، يرسم سكانها أحلامهم بحياة كريمة منذ اكتشاف حقول الذهب الأسود مطلع تسعينيات القرن الماضي، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، فوحدها الأزمات تزدهر في هذه الرقعة الجغرافية من البلاد.
يصف سند بايعشوت، وهو صحافي من أبناء مدينة المكلا، معاناته للحصول على مادة البنزين بالقول "بعد انقضاء 14 ساعة من الساعة 5 فجراً إلى 7 مساء، هذه الفترة الكافية لرحلة من القاهرة إلى نيويورك وستصل إلى وجهتك قبل أن أحصل على 40 ليتر بترول". ويضيف بايعشوت في منشور على صفحته في موقع "فيسبوك": "هذا أطول طابور أقضيه في عمري، بـ14 ساعة انتظار في محطة شركة النفط، وأخشى أن يكون غداً طابور 20 ساعة للحصول على 20 كيلوغرام من الأرز".
ولا يختلف المشهد في مديريات وادي حضرموت، فالأزمة هناك أضعاف ما تعانيه مدن الساحل. يقول سكان محليون لـ"العربي الجديد"، إن محطات الوقود توقفت عن تموين المركبات والدراجات النارية منذ ثلاثة أيام بسبب نفاد الكمية، فيما وصل سعر ليتر البنزين في السوق السوداء إلى ألف ريال يمني (ما يعادل دولارين أميركيين)، فيما ووصل سعر الدبة (20 ليتراً) إلى 20 ألف ريال (40 دولاراً).
Facebook Post |
وفي ظل أزمة الوقود الخانقة، بات الحصول على ليترات من مادتي الديزل والبنزين، واحداً من الإنجازات التي تجد طريقها للاحتفاء في مواقع التواصل الاجتماعي، في مشهد يمزج بين المعاناة والسخرية في الوقت نفسه. ومن المفارقات أن تتفاعل هذه الأزمة في محافظة تقبع على عشرات الحقول النفطية، لكن كثيراً منها معطّل منذ ما يسمى بـ"الهبّة الشعبية" التي اندلعت في العام 2013، وبفعل الأزمات المتعاقبة على البلاد، والمحاصصات القبلية، ليظل وضعها على ما هو عليه حتى الآن، باستثناء ما تنتجه شركة بترومسيلة الحكومية من نفط خام يتم تصديره، وكميات من الديزل، تُباع في إطار المحافظة، وهذه الأخيرة أصبحت محل خلاف بين سلطة الساحل والوادي في أحقية من يتبنّى تسويقها ويتحكّم بأسعارها.
استغلال سياسي
وفي وقت تلتزم فيه الحكومة والسلطات المحلية الصمت تجاه الأزمة، وتتعمد إبقاءها قيد الغموض حتى الآن، تجد جهات وكيانات سياسية طريقها سالكاً لاستغلال الأزمة سياسياً وتبادل الاتهامات، وتجيير غليان الشارع لصالح أجندتها.
وفي هذا الإطار، أشعل ملف المشتقات النفطية الخلافات بين سلطة الساحل وسلطة الوادي في ظل اتهامات لمحافظ حضرموت وشركة النفط في الساحل، بممارسة المركزية المفرطة ضد الوادي من خلال وقف تموين مديرياته بالمحروقات، وهو ما اعتبرته السلطة المحلية في الوادي ممارسة عنصرية تكرس الانقسام. وتنقسم محافظة حضرموت إدارياً إلى "ساحل" يضم 12 مديرية من ضمنها مدينة المكلا عاصمة المحافظة، و"واد" يضم 16 مديرية ومركزه مدينة سيئون، وهو أشبه بمحافظة مستقلة، إذ إن لكل مكتب تنفيذي في المكلا نظيراً له في سيئون، لتسهيل العمل الإداري نظراً لكبر مساحة المحافظة.
يقول مدير شركة النفط في وادي حضرموت عبدالرحمن بلفاس، إن الشركة في ساحل حضرموت والمكلفة بتوريد المشتقات النفطية، توقفت عن تموين الوادي بمادة البترول منذ مطلع سبتمبر/أيلول الحالي، باستثناء كمية تكفي ليومين فقط، بحجة قلة الكميات. ويكشف بلفاس لـ"العربي الجديد"، أن شركة النفط في الوادي كانت قد تقدّمت بطلب استيراد المشتقات النفطية لتغطية احتياجات نطاقها الجغرافي، لكن طلبها قوبل بالرفض من قبل قيادة المحافظة، بذريعة أن المحافظة واحدة، وتكفي جهة واحدة للاستيراد وهي شركة النفط بالساحل. ويطالب بلفاس بالسماح لفرع شركة النفط بالوادي بالاستيراد عبر منشآت ميناء المكلا، وزيادة مخصص مديريات الوادي من المحروقات، إلى جانب السعي إلى الحصول على مصادر تموين أخرى لتجاوز الأزمة.
Facebook Post |
وفي أول ردة فعل على توقف شركة النفط في ساحل حضرموت عن رفد الوادي بكمياته من البترول، وجّه وكيل محافظة حضرموت لشؤون مديريات الوادي والصحراء، عصام الكثيري، قوات الجيش بمنع مرور مقطورات تحميل المشتقات النفطية المخصصة للمحافظات الأخرى، والآتية من ميناء المكلا، ابتداء من يوم الثلاثاء الماضي. ومن شأن هذه الخطوة أن تتسبّب بخسائر كبيرة لتجار استيراد المشتقات النفطية عبر ميناء المكلا، إذ يقوم التجار بتقسيم كل شحنة مستوردة إلى قسمين، واحدة لحضرموت بسعر مدعوم، وأخرى لبقية المحافظات بسعر تجاري.
ويقول مصدر مسؤول لـ"العربي الجديد"، إن نسبة الكميات التجارية من المشتقات النفطية تصل إلى قرابة 80 في المائة وتباع في المحافظات المجاورة والشمالية مروراً بوادي حضرموت، لكن بعد تطبيق هذا القرار لن يتمكّن التجار من بيع مشتقاتهم النفطية في المحافظات المجاورة والشمالية في البلاد. وتحصل السلطات في ساحل حضرموت على نسبة من بيع هذه المشتقات النفطية وتعتمد عليها في تسيير كثير من الملفات.
وبحسب المصدر، فإن هذه الخطوة تأتي في إطار الضغط على شركة النفط في ساحل حضرموت والتجار وقيادة المحافظة، لحصول الوادي على مخصصاته كاملة بشكل يومي أو السماح له باستيراد كمياته بنفسه.
وبهذه الخطوة تكون العلاقة بين ساحل ووادي حضرموت المتوترة أصلاً قد وصلت إلى مرحلة الصدام العلني، بعد قرابة عامين من الخلافات في كثير من الملفات، والتي نادراً ما تجد طريقها إلى الإعلام. ومن المتوقع أن يلقي هذا التطور بظلاله على مستقبل العلاقة بين ساحل ووادي حضرموت، بما قد يعزز قناعات المطالبين بإعلان وادي حضرموت محافظة، وهو ملف وضع على طاولة الرئاسة اليمنية.
يقول الناشط السياسي جمعان بن سعد، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن على الحكومة أن تمنح وادي وصحراء حضرموت حقهما عبر توسيع صلاحيات الوادي، فالمشكلة أكبر من مجرد الحرمان من مشتقات نفطية، بل تتجاوزها إلى اختلال التقسيم العادل إلى ملفات أخرى. ويضيف أنه "بعد كل ما حدث بات قرار إعلان وادي حضرموت محافظة بكامل صلاحياتها أمراً لا مفر منه".
Facebook Post |
يُذكر أن حالة الاحتقان التي تمر بها المحافظة، تتزامن مع زيارة غامضة لمحافظ حضرموت اللواء الركن فرج سالمين البحسني، إلى دولة الإمارات منذ أسبوع. وعلى الرغم من تداول وسائل إعلام بأن غرض الزيارة إجراء فحوصات طبية، إلا أن المكتب الإعلامي للمحافظ لم يدلِ بأي بيان عن هدف الزيارة كعادته. وتأتي زيارة البحسني إلى أبوظبي بعد أيام قليلة فقط من تهديده بوقف تصدير النفط في حال لم تتخذ الحكومة إجراءات للحد من التدهور الاقتصادي، كما أنها تأتي بعد احتجاجات شهدتها مدينة المكلا ضد سياسات الإمارات في البلاد وتمزيق صور لقياداتها وسط المدينة.
حلفاء الإمارات حاضرون
وفي إطار الاستغلال السياسي للأزمة، بارك فرع "المجلس الانتقالي" المدعوم إماراتياً في محافظة حضرموت، استئناف الاحتجاجات الشعبية في مدينة سيئون مركز وادي حضرموت خلال اليومين الماضيين، ضد تردي الأوضاع الاقتصادية، بينما كان قد اعتبر في بيان سابق الاحتجاجات التي شهدتها مدينة المكلا والتي رفعت شعارات ضد دولة الإمارات، "جزءاً من مؤامرات قطر وإيران لإشاعة الفوضى".
ووفقاً لمراقبين، فإن "المجلس الانتقالي" يهدف من خلال الدفع بالاحتجاجات في وادي حضرموت إلى تهييج الشارع ضد السلطة المحلية في الوادي المعروفة بقربها من الرئاسة والحكومة الشرعية، فضلاً عن إشاعة الفوضى لخلق حالة من التصادم مع قوات المنطقة العسكرية الأولى (آخر وحدة عسكرية قوامها خليط من مختلف المحافظات)، واستبدالها بقوات "النخبة الحضرمية" المدعومة إماراتياً، وهو توجّه اعتاد عليه حلفاء الإمارات في كل أزمة يمر بها وادي حضرموت.