بيروت لم تعد بيروت. هذه المدينة التي عدت إليها قبل أسابيع، بعد فراق 7 سنوات، تغيّرت كثيراً. بيروت كانت حبّي الأوّل، التقيتها للمرّة الأولى عندما رحلت عن "الضيعة" البقاعية، لألتحق بإحدى جامعاتها. حبّها كان بالفطرة. أحببتُ تفاصيلها من النظرة الأولى. شوارعها، أرصفتها، أبنيتها، "البرادي" على الشرفات، براميل القمامة... كلّ شيء.
دخلتها في العام 2000 كـ"صعيدي في الجامعة الأميركية": شاب بقاعيّ يزور المدينة للمرّة الأولى. فاحتضنتني على طبيعتي، لم تأبه لـ"بريستيجي الهابط"، ربما لأنّني سكنت في شوارعها الشعبية. أحببتها وأحبّتني. مشيتُ في شوارعها بحريّة مطلقة. لا متعة تضاهي مراقبة آلة صناعة "الفريسكو" (العصير المثلّج) في واجهات محلات العصائر والحلويات. ألوانها تشدّ الانتباه: أحمر، أصفر، برتقالي.. آلات تدور طيلة النهار بلا تعب. تمنع العصير من التجمّد كما تمنعه من الذوبان الكامل. عجيب، تشبه "البقسمة البقاعية" (ثلج الطبيعة مع الدبس) لكن "مودرن" أكثر.
اعتدت أن أشرب "الفريسكو" على الطالعة والنازلة بينما أراقب "دردشة" المارّة وابتساماتهم... حتى المزيّفة منها. بيروت تحوّل الزيف إلى طبيعة. هذا السحر لن تلقاه في أيّ عاصمة أو مدينة أخرى.
ينطلق العام الجامعي. نتابع بعض المحاضرات وننسحب من بعضها الآخر، بحسب المزاج، باتّجاه المقاهي المحيطة بالكلية في منطقة الكولا المحورية. هناك نلتقي بـ"عمر"، الطفل السوري الآتي من طرابلس ليبيع "علكة غندور" في شوارع بيروت. تعطف عليه "الشلّة". نجمع في ما بيننا بعض المال ونعطيه لابن السنوات الستّ كي ينهي عمله بسرعة ويعود الى طرابلس "عَ بكّير"... بيروت، التي هي نحن، تعاطفت مع "عمر". التعاطف يومها كان مشروعاً، ربما لأنّ عمر لم يحمل على كتفيه براميل البارود ولا كانت تلمع في عينيه "ثورة".
أما اليوم، فبيروت لم تعد بيروت. الحبّ فيها ينضب، الوجوه شاحبة، تلك الابتسامات خطّت مكانها، رغم "البوتوكس والفيلير"، تجاعيد كفيلة بالتحدّث عن بشاعة المرحلة. السهر فيها لم يعد كما كان قبل سنوات. العيون تعبت من الترقب والمراقبة. حتّى القطط عند براميل القمامة باتت تخاف منّا بعد أن كانت تقترب لتداعب أقدامنا سابقاً. ترانا نقترب منها فتهرع للاختباء خلف إطارات السيارات. ربما يكون الموت دهساً تحت إطارات سيّارة أكثر رحمةً من "ضيق خلق" البعض.
"روحي خلّي داعش يصرف عليكِ"، يقول بائع في أحد متاجر شارع الحمرا لـ"فاطمة"، الطفلة السورية التي تبيع الورود. ألا نقول في لبنان إنّ "الشغل مش عيب"؟! ما ذنب هذه الطفلة التي هجّرتها آلة القتل في بلدها كما هجّرت مئات الآلاف غيرها! لماذا هذه العنصرية؟ بيروت لا تعرف العنصرية والكراهية.
في الشارع نفسه، الذي يعجّ بـ"مثقّفي" الصحافة والأدب والشعر، طفل من دوما يمسح أحذية من يعطف عليه بالقليل من المال. "بسّ 500 ليرة سيدي"، يقول محمد الدومي لرجل يرتدي "ترانشكوت" فاخراً وتبدو عليه مظاهر "العزّ" بوضوح. لم يكترث الرجل. مضى في طريقه وهو يدمدم:"بزيادة عليك... قدّيش بعطيك على مسح الصباط"؟
سؤال يؤرّقني منذ التقيت فاطمة ومحمد ومن يشبهما: هل أحبّوا بيروت من النظرة الأولى كما أحببتها؟
في بيروت أيضاً، بعض الجمعيات الإغاثية التابعة للأمم المتحدة تتضرّع الى الله لتستمرّ الحرب السورية. لما لا؟ وبعض المنتفعين منها كسبت "جيوبه" أموالاً طائلة. يكفي أن يوقّع موظف "لا حول ولا قوّة له" على إيصالات، مدعّمة بصور من مخيّمات اللاجئين، تثبت تنظيم النشاطات والمشاريع الإغاثية، فيتحوّل "الشيك" المصرفي إلى الحسابات البيروتية.
هل تعلم الأمم المتحدة حقيقة المبلغ الذي صُرِف؟ وأين صُرِفَ؟
لا حسيب ولا رقيب.
بيروت لم تعد بيروت... ربما لأنّ دمشق لم تعد دمشق. بيروت قد تعود إن عادت دمشق إلى المنطقة وعادت سورية إلى شعبها. فبيروت ودمشق من رحمٍ واحد.
دخلتها في العام 2000 كـ"صعيدي في الجامعة الأميركية": شاب بقاعيّ يزور المدينة للمرّة الأولى. فاحتضنتني على طبيعتي، لم تأبه لـ"بريستيجي الهابط"، ربما لأنّني سكنت في شوارعها الشعبية. أحببتها وأحبّتني. مشيتُ في شوارعها بحريّة مطلقة. لا متعة تضاهي مراقبة آلة صناعة "الفريسكو" (العصير المثلّج) في واجهات محلات العصائر والحلويات. ألوانها تشدّ الانتباه: أحمر، أصفر، برتقالي.. آلات تدور طيلة النهار بلا تعب. تمنع العصير من التجمّد كما تمنعه من الذوبان الكامل. عجيب، تشبه "البقسمة البقاعية" (ثلج الطبيعة مع الدبس) لكن "مودرن" أكثر.
اعتدت أن أشرب "الفريسكو" على الطالعة والنازلة بينما أراقب "دردشة" المارّة وابتساماتهم... حتى المزيّفة منها. بيروت تحوّل الزيف إلى طبيعة. هذا السحر لن تلقاه في أيّ عاصمة أو مدينة أخرى.
ينطلق العام الجامعي. نتابع بعض المحاضرات وننسحب من بعضها الآخر، بحسب المزاج، باتّجاه المقاهي المحيطة بالكلية في منطقة الكولا المحورية. هناك نلتقي بـ"عمر"، الطفل السوري الآتي من طرابلس ليبيع "علكة غندور" في شوارع بيروت. تعطف عليه "الشلّة". نجمع في ما بيننا بعض المال ونعطيه لابن السنوات الستّ كي ينهي عمله بسرعة ويعود الى طرابلس "عَ بكّير"... بيروت، التي هي نحن، تعاطفت مع "عمر". التعاطف يومها كان مشروعاً، ربما لأنّ عمر لم يحمل على كتفيه براميل البارود ولا كانت تلمع في عينيه "ثورة".
أما اليوم، فبيروت لم تعد بيروت. الحبّ فيها ينضب، الوجوه شاحبة، تلك الابتسامات خطّت مكانها، رغم "البوتوكس والفيلير"، تجاعيد كفيلة بالتحدّث عن بشاعة المرحلة. السهر فيها لم يعد كما كان قبل سنوات. العيون تعبت من الترقب والمراقبة. حتّى القطط عند براميل القمامة باتت تخاف منّا بعد أن كانت تقترب لتداعب أقدامنا سابقاً. ترانا نقترب منها فتهرع للاختباء خلف إطارات السيارات. ربما يكون الموت دهساً تحت إطارات سيّارة أكثر رحمةً من "ضيق خلق" البعض.
"روحي خلّي داعش يصرف عليكِ"، يقول بائع في أحد متاجر شارع الحمرا لـ"فاطمة"، الطفلة السورية التي تبيع الورود. ألا نقول في لبنان إنّ "الشغل مش عيب"؟! ما ذنب هذه الطفلة التي هجّرتها آلة القتل في بلدها كما هجّرت مئات الآلاف غيرها! لماذا هذه العنصرية؟ بيروت لا تعرف العنصرية والكراهية.
في الشارع نفسه، الذي يعجّ بـ"مثقّفي" الصحافة والأدب والشعر، طفل من دوما يمسح أحذية من يعطف عليه بالقليل من المال. "بسّ 500 ليرة سيدي"، يقول محمد الدومي لرجل يرتدي "ترانشكوت" فاخراً وتبدو عليه مظاهر "العزّ" بوضوح. لم يكترث الرجل. مضى في طريقه وهو يدمدم:"بزيادة عليك... قدّيش بعطيك على مسح الصباط"؟
سؤال يؤرّقني منذ التقيت فاطمة ومحمد ومن يشبهما: هل أحبّوا بيروت من النظرة الأولى كما أحببتها؟
في بيروت أيضاً، بعض الجمعيات الإغاثية التابعة للأمم المتحدة تتضرّع الى الله لتستمرّ الحرب السورية. لما لا؟ وبعض المنتفعين منها كسبت "جيوبه" أموالاً طائلة. يكفي أن يوقّع موظف "لا حول ولا قوّة له" على إيصالات، مدعّمة بصور من مخيّمات اللاجئين، تثبت تنظيم النشاطات والمشاريع الإغاثية، فيتحوّل "الشيك" المصرفي إلى الحسابات البيروتية.
هل تعلم الأمم المتحدة حقيقة المبلغ الذي صُرِف؟ وأين صُرِفَ؟
لا حسيب ولا رقيب.
بيروت لم تعد بيروت... ربما لأنّ دمشق لم تعد دمشق. بيروت قد تعود إن عادت دمشق إلى المنطقة وعادت سورية إلى شعبها. فبيروت ودمشق من رحمٍ واحد.