تسير حلب نحو تحوّلها إلى مدينة محتلة على يد المليشيات، الحكومية منها وغير الحكومية، مع بدء تنفيذ "اتفاق" تهجير أهلها أمس الخميس، في عملية أرادت روسيا أن تتم بسرعة، إلا أن العدد الكبير للمدنيين المنكوبين الراغبين بعدم تسليم مصائرهم للمليشيات، وبالتالي مغادرة المدينة المدمرة، يُتوقع أن يؤدي إلى تأخير عملية التهجير أياماً، إضافة إلى استمرار العوائق والعقبات أمام العملية، وهو ما أخّر خروج دفعة ثانية من المُرحّلين عصر أمس بعدما خرجت أول قافلة بعد الظهر. ولم ينتظر رئيس النظام السوري بشار الأسد أن تبسط المليشيات المتحالفة معه سيطرتها بشكل كامل على المدينة، إذ سارع أمس للإعراب عن فرحته بما سماه "تحرير" حلب، معتبراً في شريط مصور أن "ما يحصل اليوم هو كتابة التاريخ"، مضيفاً: "مع تحرير حلب سنقول الوضع ليس فقط السوري وليس فقط الإقليمي تغير، بل أيضاً الدولي".
في المقابل، قالت مصادر أخرى في المعارضة إن الاتفاق الذي تم بين روسيا وتركيا بمشاركة مندوب عن فصائل المعارضة، يقضي بخروج نحو عشرين ألف شخص من أحياء مدينة حلب الشرقية، بينهم 6 آلاف مقاتل و12 ألف مدني ونحو ألف جريح، غير أن مصادر الأمم المتحدة قدّرت أن يخرج نحو خمسين ألفاً من المدينة. وحسب مصادر مختلفة، سيتم في المرحلة الأولى خروجُ الجرحى، ومن ثم عائلاتُ المقاتلين، وبعدها المقاتلون أنفسهم، ثم من يرغب بالخروج من المدنيين. وقدّرت مصادر مختلفة وجود بين 70 و100 ألف مدني في الأحياء المتبقية تحت سيطرة مقاتلي المعارضة في حلب، بينهم عدد كبير من النازحين من أحياء أخرى سيطرت عليها قوات النظام، وهؤلاء من المرجح أن يختار معظمهم الخروج، بعد أن دُمرت بيوتهم، أو أنهم يخشون التعرض للاعتقال والتصفية ومختلف أشكال الاعتداءات على يد قوات النظام السوري والمليشيات إذا فكروا بالعودة إلى مناطقهم، بينما قد يفضل بعض سكان الأحياء المتبقية تحت سيطرة المعارضة البقاء في منازلهم، خصوصاً أن لا ضمانات بعدم تعرضهم للقصف في المناطق الجديدة التي سيصلون إليها في إدلب أو الريف الغربي من حلب.
لكن عملية التهجير التي تريدها روسيا سريعة، لا تزال تواجهها عراقيل؛ فإضافة إلى عدد المدنيين الهائل، فقد تم تأجيل إخلاء الدفعة الثانية التي كانت مقررة عصر أمس، بسبب عدم وجود حافلات كافية، فيما كان مستشار الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية يان إيغلاند يعلن في مؤتمر صحافي، أن روسيا أبلغت مجموعة العمل الدولية للشؤون الإنسانية في سورية خلال اجتماع أمس أن عملية الإجلاء من شرق حلب ستكون سريعة وسلمية. وبدأت عملية الخروج التي أشرف عليها الهلال الأحمر السوري في الساعات الأولى من صباح أمس، عندما دخلت حافلات لنقل الجرحى وبعض المدنيين، إلا أن الحافلات تعرضت إلى إطلاق نار لدى مرورها في منطقة الراموسة التي تسيطر عليها المليشيات الإيرانية وحزب الله، ما أدى إلى مقتل شخص من الدفاع المدني، وإصابة 4 آخرين من ركاب الحافلة. وأدى ذلك إلى تراجع القافلة وعودتها مجدداً إلى مناطق سيطرة قوات المعارضة في الأحياء الشرقية من حلب.
تبعت ذلك مفاوضات جديدة لتخطي الشروط التي طرحتها إيران والمليشيات من أجل السماح بتمرير الاتفاق وتتصل أساساً بضرورة خروج جميع المدنيين من بلدتي الفوعا وكفريا المواليتين للنظام في ريف إدلب، إضافة إلى تسليم جثث الضباط الإيرانيين وأسرى المليشيات لدى مقاتلي المعارضة. كما طالبت المليشيات بقوائم لأسماء المسلحين والأجانب والناشطين والإعلاميين والكوادر الطبية الذين سيخرجون من حلب، الأمر الذي رفضته فصائل المعارضة. وبعد مفاوضات تخللتها ضغوط وتهديدات روسية لجميع الأطراف، بمن فيها قوات النظام والمليشيات، بأنها سترد عسكرياً على كل من يتعرض لقافلة المرحّلين، وافقت إيران على الاتفاق مقابل موافقة المعارضة على خروج الجرحى وكبار السن من كفريا والفوعا.
وعقب الرضوخ الإيراني للتهديدات الروسية، ادعى بيان للخارجية الإيرانية أنه لا توجد شروط إيرانية بشأن الاتفاق، كما لا توجد خلافات مع الجانب الروسي بشأنه. غير أن عرقلة إيران للاتفاق بواسطة المليشيات التي تأتمر بأمرها والمنتشرة على طول الطريق الذي تسلكه قوافل المرحّلين، أعاقت مرة أخرى وصول الحافلات إلى الريف الغربي في حلب، وأطلقت نيراناً على الحافلات من منطقة 1070 شقة، لكن دون التسبب في وقوع ضحايا هذه المرة، في حين امتنعت المليشيات عن إزالة الحواجز الترابية من طريق الحافلات بغية عرقلة مسيرها.
وقال الضابط المنشق نبيل الخطيب، لـ"العربي الجديد"، إن "إيران والمليشيات تحاول بشراسة تعطيل الاتفاق لإشفاء غليلها تجاه مقاتلي حلب من جهة، ولفرض إجلاء المدنيين في كفريا والفوعة من جهة أخرى، وذلك في إطار التحضير لمعركة إدلب المقبلة"، مشيراً إلى أن هاتين البلدتين اللتين تقطنهما غالبية شيعية قد تشكلان عبئاً على قوات النظام والمليشيات خلال اندلاع معارك في إدلب، إذ يعمد مقاتلو المعارضة إلى قصفهما عادة بغية التخفيف عن مناطق أخرى يقصفها النظام، وهما بمثابة رهينتين لدى فصائل المعارضة حسب تعبيره. ورافق عملية الإخلاء تحليق طائرات استطلاع روسية وطائرات حربية تابعة للنظام، وذلك بغية مراقبة القوافل بعد الاعتداءات التي تعرضت لها من جانب المليشيات الإيرانية. وقال المركز الروسي في حميميم، إنه يتابع عملية الترحيل عبر كاميرات المراقبة والطائرات من دون طيار، مشيراً إلى أن ممثلين عن اللجنة الدولية للصليب الأحمر يساهمون في عملية الإجلاء وقد رافقوا سيارات الإسعاف التي نقلت الجرحى تحت إشراف الضباط الروس.
وقالت المتحدثة باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر، إنجي صدقي، إن اللجنة استجابت لطلب الأطراف المعنية، وتشارك في إجلاء الجرحى، مشيرة إلى أن 100 من موظفي اللجنة و10 سيارات إسعاف تشارك في العملية. وتُبرز هذه التطورات في حلب الدور المتعاظم للمليشيات الإيرانية في الساحة السورية والتي تستطيع عرقلة الاتفاقات التي ترعاها قوى دولية، بما فيها روسيا الداعم الرئيسي للنظام السوري. ورأى الصحافي أحمد العلي أن المليشيات التي تأتمر بإمرة إيران تعمل بشكل مستقل ولا تلتزم برأي النظام وروسيا إلا تحت الضغط العسكري المباشر عليها، وحينما تأتيها الأوامر من إيران تحديداً. وأضاف العلي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنه تم تسجيل ارتكاب العديد من الجرائم خلال المعارك الأخيرة في حلب من قِبل هذه المليشيات، إذ جرى بحسب الأمم المتحدة إعدام ما لا يقل عن 80 شخصاً في الأحياء الشرقية من مدينة حلب، وعمد أفراد هذه المليشيات إلى إعدام عائلات الأشخاص المنتمين لفصائل المعارضة أو حتى عائلات الناشطين الإعلاميين والإغاثيين. واعتبر أن الخلافات بين روسيا وإيران في هذه المرحلة تشير إلى طبيعة هاتين الدولتين، إذ لروسيا مصالح في سورية، بينما تعمل إيران على مشروع عقائدي طائفي، وتستخدم المليشيات كذراع باطشة على الأرض. وترافق بدء عمليات إجلاء المقاتلين والمدنيين من أحياء حلب المحاصرة، مع استعدادات في الريف الحلبي وفي محافظة إدلب، لاستقبال الواصلين بالتعاون مع السلطات والمنظمات الإغاثية التركية والمحلية والدولية.
وإذا اختارت أعداد كبيرة من المدنيين والمقاتلين التوجّه إلى إدلب، فسيشكل ذلك مشكلة كبيرة للمحافظة التي يشتكي المسؤولون فيها من عدم توفر الإمكانيات الكافية لاستقبال مزيد من النازحين بعدما استقبلت في الفترات الأخيرة آلاف المهجرين من مدنيين ومقاتلين من مناطق مختلفة في ريف دمشق بموجب اتفاقات مع النظام السوري. وقد أعلن المجلس المحلي لمدينة سراقب وريفها في إدلب أمس الخميس استعداده لاستقبال المهجرين "رغم الإمكانيات الضعيفة"، وناشد المنظمات الإنسانية تقديم المساعدة. وكانت مجالس وقرى وفاعليات المجتمع المدني في إدلب أصدرت بياناً قبل أيام، أكدت فيه أن المدينة باتت عاجزة عن استقبال المزيد من المهجرين في ظل تآكل بنيتها التحتية بسبب القصف المستمر لقوات النظام والطائرات الروسية للمستشفيات والمدارس والمنشآت الحيوية. وتتولى جهات ومنظمات إنسانية عدة، مسؤولية استقبال المهجرين وتأمين احتياجاتهم من سكن وطعام وخدمات أخرى وفي مقدمتها هيئة الإغاثة التابعة للإدارة المدنية لـ"جيش الفتح"، إذ تم استقبال العائلات وتوزيعها على مجمل مناطق محافظة إدلب، بالتنسيق مع إدارات المناطق في المحافظة، وذلك بعد تشكيل غرفة طوارئ تضم كل المنظمات العاملة على الأرض، لتجهيز المساعدات والبيوت وأماكن إقامة المهجرين. كما تتولى بعض الفصائل المسلحة مثل "جيش الإسلام" الموجود في الشمال السوري استقبال بعض العائلات.