حملة انتخابية بلا "عواطف" متلفزة
لم تدخل السياسة الخارجية على خط الحملة للانتخابات العامة البريطانية سوى لومضة بسيطة، في حين دارت رحى المعركة على الاقتصاد، من دون أن يؤثر ما يحدث خارج حدود البلاد، بما في ذلك الاستقطاب المتزايد لداعش في أوساط الشباب البريطاني، على قرار الناخبين القلقين على قضايا معيشية بالدرجة الأولى، من فرص العمل إلى المساعدات الحكومية والسكن، وغيرها من قضايا محلية.
أسهم اتهام زعيم حزب العمال، إد ميليباند، خصمه زعيم المحافطين ورئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، بالفشل في وضع خطة لدعم العملية الانتقالية في ليبيا، في إدخال السياسة الخارجية على خط المعركة الانتخابية المحتدمة، ولو أن إشارة ميليباند بقيت عابرة، ولم تفتح الباب أمام مراجعة لسياسات بريطانيا الخارجية في العالم العربي ما بعد الثورات، ولا الموقف من الأزمة في سورية، بل اكتفت بالتركيز على الكارثة الإنسانية لغرق المهاجرين الوافدين من ليبيا إلى أوروبا.
وساهمت ملاحظة ميليباند الانتخابية في عودة تداعيات الثورات العربية مجددا إلى الشاشة البريطانية، ولو لفترة وجيزة، فبثت هيئة الإذاعة والتلفزة البريطانية (بي بي سي) تحقيقا عن الوضع في ليبيا، كان على مقدمته أن تشرح الظروف المعقدة للوضع في ليبيا، والتي توقفت المحطة، وغيرها من وسائل الإعلام البريطانية، عن متابعة تفاصيلها منذ فترة طويلة، كما هي الحال بالنسبة لتداعيات الثورات بشكل عام.
بقيت الحملة للانتخابات العامة البريطانية محلية بامتياز، لتركز على الاقتصاد وعلى قضايا تمس الحاجات اليومية للمواطن العادي، والتي يتوقع أن تكون العامل الأبرز في خيار الناخبين المترددين في انتخاباتٍ يصعب توقع نتائجها. كما تراجعت حصة الجدل حول الاغتراب والمهاجرين، والذي بدا موضوعا للجدل، بقدر ما يغذي حظوظ اليمين المتطرف.
على وقع الفضائح والاتهامات، شغل الصراع الانتخابي الشاشات البريطانية، لتبلغ تغطية الشأن الانتخابي نحو 50% من التغطية الإخبارية لكبريات المحطات البريطانية، بحسب صحيفة الغارديان استنادا إلى دراسةٍ أجراها فريق من جامعة كارديف. تصاعدت الحصة المخصصة للحملات الانتخابية، في الأسابيع المتتالية، مع الحوارات المتلفزة اليومية، والتي شكل بعضها محطات أساسية في الحملة الانتخابية، ومنها الحوار الذي أداره المحاور التلفزيوني، جيريمي باكسمان، مع زعيمي "العمال" و"المحافظين"، وفيه أخضع المحاور الشرس رجلي السياسة لمحاسبة دقيقة لمواقفهما، خرج منها الاثنان بنقاط إيجابية وأخرى سلبية.
شكلت محطات التلفزة الحلبة الرئيسية للحملات الانتخابية، تنافسها وسائل التواصل الحديث التي طبعت الحملة الإنتخابية للمرشحين، متقدمة على الصحف التقليدية التي لم تغب عن حسابات المرشحين وزياراتهم مقراتها، ولو أن الاهتمام بها لم يتقدم على حماسة المرشحين للاستقطاب الإلكتروني للناخبين. وشكلت رسالة الدعم من رجال أعمال بارزين لحزب المحافظين موجهة لصحيفة التلغراف محطة في دعم حظوظ المحافظين، وتأكيدا لاستمرار دور الصحافة المطبوعة لاعباً انتخابياً مؤثراً.
على مدى أيام الحملة الانتخابية، شغل الإعلام البريطاني بنقل صوت الناخب العادي بكل تنوعاته: أصحاب الثروات والمعوزون، الشبان والعجزة، أبناء المدن والضواحي، سكان الأحياء الوفيرة وأبناء المناطق الغارقة بالفقر، الرجال والنساء، الأرياف البعيدة والعاصمة... احتفال انتخابي يومي على الشاشات، لا تعكره مقدمات توجيهية في النشرات الإخبارية، ولا مونولوجات لا تنتهي لمقدمي برامج حوارية، يرون في دورهم الموجه لعقول المشاهدين. يقف الإعلام ناقلاً صامتاً لرغبات الناخبين وانطباعاتهم، ومحاورا شرسا لمرشحين، عليهم أن يقنعوا الناخبين ببرامج تؤمن جواباً لاحتياجاتهم. لا تطبيل لهذا المرشح، أو ذلك، ولا تعليقات لـ"محللين"، يغدقون آيات الاحتفاء على المرشح الخارق الذي لا يحتاج إلى برنامج انتخابي، وإنما أسئلة تسعى إلى إحراج المرشح في قفص المساءلة أمام الرأي العام.
في المعركة الانتخابية الحامية الوطيس، يدير الإعلام الدفة بأعصاب باردة، ومن دون الصراخ والهرج والمرج وغيره من أداوت الإعلام العربي العاطفية. إذن، لا قلب لهذا الإعلام ولأبنائه؟ لا مواقف سياسية لديهم مع أو ضد؟ لا عواطف تشعل برامجهم وحواراتهم؟
يبرر رواد العروض العاطفية، والهستيرية أحياناً، في البرامج الحوارية العربية، أهميتها بسخونة الساحة السياسية، وبمسؤوليات مزعومة "وطنية"، تقع على عاتقهم في دعم هذا وشتم ذاك. ولعل التعايش بين حماوة الحملة الإنتخابية البريطانية وبرودة وعقلانية تعاطي الإعلام مع فصولها دليل على قدرة الإعلام على التحرر من سطوة السياسة، عندما تحكم التقاليد المهنية العريقة أداء أبنائه، بصرف النظر عن اتجاهات هؤلاء وممولي إعلامهم.