أبرزت نكسة حزيران/ يونيو عام 1967 جملة تداعيات في تعبيرات النخب، سواء السياسية منها أو تلك التي انزاحت نحو الفكر والأدب والفنون، واتفقت في معظمها على إنكار الهزيمة عبر اللجوء إلى صيغ تبريرية متعدّدة ترفض أيّة مراجعة نقدية وتضعها في خانة التجريح، وقادت إلى إحباط عام لا تزال منتجاته تمارس حضورها إلى اليوم.
لم يبتعد مشروع المقاومة الفلسطينية التي تأسّست قبل ذلك بعدّة أعوام عن هذا المناخات، بل إنها كانت الأكثر تأثّراً بها، ضمن محاولات قدّمتها ثلّة من المؤمنين بأن استرجاع الأرض المحتلّة سبيله الوحيد تحرّر اجتماعي وسياسي، وإجراء قطيعة مع أيّة استلابات ماضوية أو راهنة، حيث تحديث المجتمع لا ينفصل عن مواجهة الاستعمار بالضرورة.
في صلب هذا التوجّه، برز الباحث والمناضل والشهيد الفلسطيني حنا إبراهيم ميخائيل (1935 - 1976) الذي عاش لحظتين دراميتيْن في حياته القصيرة، الأولى حين ترك موقعه أستاذاً في "جامعة واشنطن" عام 1969، والتحق بصفوف الثورة الفلسطينية، حيث رأى أن خلاصاته المعرفية يجب أن توظّف لصالح معركة التحرّر الوطني، متخلياً بذلك عن طموح شخصي كان قادراً على تحقيقه.
اللحظة الثانية تمثّلت في نهايته الغامضة التي لم تُكشف بعد أكثر من أربعة عقود على رحيله، حيث فُقد على متن زروق مطاطي مع عدد من رفاقه، إذ تشير المعلومات المتوافرة إلى أن بعضهم استشهد والآخرين اعتقلتهم قوات الكتائب وسلمتهم للجيش السوري وأنهم ما زالوا أحياء في سجون دمشق؛ نهاية وقف عندها من يعرفونه دون سعي حقيقي لدراسة تجربته، وربما كانت سبباً لتناسيه لدى كثيرين.
تعيد جهان حلو التعريف برفيق دربها في الزواج والنضال في الكتاب الذي أعدّته بعنوان "غُيّب فازداد حضوراً.. حنا إبراهيم ميخائيل (أبو عمر)"، الذي صدر مؤخراً عن "الأهلية" بتقديم شريف كناعنة، إذ تشير إلى أنها قامت بمهمتها هذه "لأنه غُيّب مرتين، حين اختفى ورفاقه، وحين غُيّبت سيرته وسيرة رفاقه عن خطاب حركة فتح الرسمي وأدبياتها".
وتطرح بمزيج من الفقد والرغبة في فهم دوافع الغياب تساؤلات منها: لماذا حُرم العالم العربي من العديد من الكوادر والشخصيات من ثوريين ومفكرين بلا سبب إلا الاستهانة بالحياة البشرية؟ لماذا غُيّبت الحريات والديمقراطية؟ لماذا الجهل بأهمية الفكر في معركة التحرّر والتحرير، وتجاهل أن الإنسان هو ثروتنا التي لا تعوَّض؟
من خلال جهد توثيقي، تنقل حلو شهادات مسجّلة لأفراد عائلة حنا ميخائيل؛ أمّه وثلاث من شقيقاته الأربع، مبقية على حديثهن بالعاميّة (الدارجة) ببساطته وعفويته وتفجّعه أحياناً، لكنهن ركّزن على سمات مشتركة عكست شخصية الراحل، أوّلها انضباطه منذ الصغر وتحلّيه بحسّ المسؤولية والتقيّد بالواجب ومشاركة أُسرته ومحيطه جميع همومهم، وقدرته على استيعاب اختلاف كلّ واحد منهم والتعامل مع خصوصياتهم.
رغم أن تلك الشهادات وقفت كثيراً عند تفوّق أبو عمر في مراحل الدراسة جميعها، وحسّه القيادي الذي برز في سن باكرة غير مفترقٍ عن تواضعه الشديد، إلا أن هذه السمات التي تحيل إلى جديّته والتزامه وعقلانيته لم تخْفِ ذلك الشاعر الشارد الذي يمتلك وسيطاً موازياً للتعبير عن ذاته وعلاقته بالوجود تُمثّله القصيدة التي رافقته حتى رحل في الحادية والأربعين.
إحدى الوقائع المهمّة التي أوردتها شقيقته جين في استعادتها لمشاركة حنّا في برنامج "المناظرة" الذي كان يقدّمه المحامي المعروف بتعصّبه للصهيونية آلان ديرشوفيتز على قناة أميركية عام 1970، وظهرت خلاله شخصيات عديدة منها جمال عبد الناصر والملك حسين وجورج حبش، والصهيونية غولدا مائير، وحين استضاف أبا عمر بصفته الممثل الإعلامي لـ"منظمة التحرير"، استُفزّ ديرشوفيتز بسبب تقديمه خطاباً عقلانياً يعتمد الحقائق والتحليل، وصرخ وهو يطرق على الطاولة على غير عادته، ليردّ أبو عمر بكامل هدوئه: "بالصراخ لن تجعل الحقائق أوضح".
يشتمل الكتاب على شهادات عدد من أصدقائه ورفاقه وممن عرفوه عن قرب، تشير في مجموعها إلى شخصية استثنائية تميل إلى الصمت غالباً إلا حين يستدعي الكلام تقديم آرائه المعمّقة المبنية على قراءات موسّعة واجتراح اجتهادات فكرية وتنظيمية وسياسية، حيث الجدل بين الممارسة والنظرية ليس مجرّد أدبيات صمّاء للاستعراض الرفاقي، إنما تَحدٍّ واجهه ببراعة واقتدار حيث الثورة تبدأ من الحياة اليومية وتنتهي عندها.
ضمن رؤيته النقدية، لم ير بإمكانية تحرير الأرض قبل تغيير الأنظمة العربية المستبدة بأنظمة ديمقراطية تمثّل إرادة شعوبها، بحسب الكتاب، ونبّه من خطورة المضي في أوهام إقامة دولة فلسطينية مستقلّة قبل حدوث تغييرات جوهرية على صعيد موازين القوى العربية والعالمية، إضافة إلى أهمية ترافُق ذلك مع نمو تيار ديمقراطي قوي داخل "إسرائيل" معادٍ لسياستها الاستعمارية العنصرية، وداخل الدول الغربية، لا سيما في الولايات المتحدة.
أفكاره السياسية التي كانت مفارقة للسائد، خاصة في ما يتعلّق بأولوية الديمقراطية، كانت متلازمة في الوقت نفسه مع قناعته الأكيدة بالثورة التي تعني تحرير العقل وامتلاك أدوات متقدمة للمقاومة والعمل الثوري تضاهي تلك التي يحوزها العدو الصهيوني، وأن ذلك لا يلغي النضال السلمي الذي يقود تغليبه إلى الاستسلام، بحسب رؤيته للصراع.
يقول في مقاله الذي يحمل عنوان "الثورة الفلسطينية والثورة العالمية" المنشور في كانون الثاني/ يناير عام 1973: "ولقد أثبتت التجربة الملموسة أن غياب الثورة المسلحة ضد الكيان الصهيوني قد شجّعه أكثر من مرّة على اقتراف عدوان دولي هدّد العالم بانفجار حرب عالمية كما حدث في عامي 1956 و1967".
وبالمثل، واجه الواقع الاجتماعي عبر انحيازه الدائم إلى المرأة ورفضه للسلوكيات الذكورية التي كان تُمارَس حتى في صفوف المقاومين أنفسهم، حيث عبّر عن ذلك بقوله: "قضية المرأة هي الأساس في الحكم على مدى تقدّمية أي رجل، وإن حككنا جلد معظم الرجال بالنسبة إلى قضية المرأة لرأينا أن معظمهم متمسك بالكثير من التقاليد البالية".
سار حنا إبراهيم ميخائيل إلى نهايته بقلب شجاع وعقل حرّ، وهو الذي وضع قصيدة حين بلغ الأربعين يقول في مقطع منها "أنظر إلى الوراء/ أكتشف/ أني أضعتُ/ أكثر من ربيع/ وصيف/ خارج الطريق/ سرت على طريق ليست لي"، وبكلّ إيمان وثبات يكمل: "فباستطاعتي صبّ بعض الإسمنت/ في صرح الجماهير".
لقد فعلها ومضى.