الشعور بضياع الوقت، وتدمير الأعصاب، والاستغناء عن بعض المشاريع والبرامج، والإحساس القهريّ، من ثمّ، بالعجز أمام قوّة غاشمة، قوّة الاستيطان والمستوطنين المدعومين من جيش الاحتلال، في غياب أي "قوّة" أو دور إيجابي لقوى الأمن الفلسطيني..
هذه هي أبرز الانطباعات التي عبّرت عنها صديقة/ كاتبة فلسطينية، حين سألتُها عن معاناتها الشخصية، ومشاهداتها في مواجهة الاستيطان عموماً، والطرق الاستيطانية خصوصاً.
إنها حياتنا، ختمتِ الصديقة بأسلوب يجمع ثنائية المرارة حيال الخسارات، والفخر بقدرة الفلسطيني على اجتراح "المعجزات" أحياناً كثيرة. وهو أمر اختبرتُه، في زيارتي (الوحيدة) إلى رام الله، إذ اكتشفت قدرة سائق السيّارة، مثلاً، على مراوغة "الحواجز"، الثابتة و"الطيّارة"، عبر اختيار طرق فرعية.
ضمن المآسي الجمّة، التي يتسبب بها الاستيطان تشكّل الطرق الاستيطانية- الالتفافية، كابوساً يؤرق حياة أهل القرى التي تحيط المستوطنات بها أو تخترقها، حيث يقوم الاحتلال بشقّ الطرق الاستيطانية عبر الأراضي الفلسطينية الزراعية التي يصادرها بالقوة من أصحابها، ليقيم الطرق التي تربط بين مستوطناته.
وهي طرق واسعة كما لو أنها "الهاي واي"، وتسمح بالسرعة التي تتطلّبها حياة المستوطنين وطبيعة أنشطتهم الاستيطانية، من اعتداءات وتخريب و.. هروب عند الحاجة.
تقول بعض المصادر، إن سلطات الاحتلال شقّت، في الضفة الغربية، شوارع بطول 770 كم، بدعم ماليّ من حكومة الولايات المتحدة الأميركية، بمبلغ مقداره 3.6 مليارات دولار.
أما حسابات وحدة نظم المعلومات الجغرافية، التابعة لمركز أبحاث الأراضي في القدس المحتلة، فتذكر أن مجموع طول الطرق الالتفافية القائمة على أراضي الضفة يبلغ حوالى 880 كم، فيما يبلغ مجموع الأراضي الزراعية الفلسطينية التي صودرت لغرض إقامة هذه الطرق عليها 17 ألفاً و600 كم، ممّا أدى إلى فقدان ما مساحته 19.4% من أراضي الضفة الزراعية.
وحينما تُصدر حكومة الاحتلال قرارات غاشمة، تقضي بمنع الفلسطينيين من البناء على جانبي الطريق الاستيطانيّ، وعلى بُعد 150 متراً لكل جانب من جانبيّ الطريق، فهذا يعني أن منع البناء ممتد على عرض 300 متر لطول الشارع الالتفافي، وهو الأمر الذي أصبح إجراء روتينيّاً، فهذه الشوارع لا تقتصر-إذن- على التهام أراضي الفلسطينيين، بل هي تمزّق قُراهم، وتمنعهم من التوسّع العمراني في محيطها، لتكون مشاريع استيطانية خالصة، وعلى حساب الأرض الفلسطينية، بلا رقيب أو حسيب، في ظلّ غياب قوّة ضغط من أيّ جهة.
وفضلاً عمّا تحتاج إليه هذه الطرق من مصادرة لأفضل الأراضي الزراعية، ومن كلفة عالية، فهي تقوم بدور أساسيّ في "الفصل العنصريّ" بين العرب واليهود، فصل يترتب عليه تمييز لصالح اليهودي في مناحي الحياة كلّها، لكنّ المبرر الجاهز دائماً، هو أنّها طرق فرعية للعمل على تجنب احتكاك المستوطنين بالمواطنين الفلسطينيين في الضفة.
وفي المقابل يستطيع قطيع من المستوطنين القيام بما يريده من أعمال الترهيب للفلسطينيين والتخريب لممتلكاتهم، في شوارع مشتركة، إذ لا شوارع "فلسطينية" خالصة، بل طرق "بديلة"، فرعية وبائسة، لتجنّب الاحتكاك.
طرق تضغط على أعصاب المواطن الفلسطينيّ، إذ يضطرّ إلى البحث عن طريق "التفافيّ" يقوده بعيداً عن هذه الطرق الاستيطانية، التي لا تراعي بستاناً أو بيتاً، وقد تفصل بيت عائلة ما عن حقلها، فيغدو على صاحب الحقل أن يسير مسافات، ويلتفّ التفافات طويلة، كي يصل إلى بيته الذي كان، منذ أيّام، جزءاً من هذا الحقل.
في الخلاصة، فإن المسافة بين أريحا ورام الله، مثلاً، قبل تغوّل الاستيطان، والطرق التي توصف بحق أنها "طرق الموت"، كانت عبارة عن رحلة لا تستهلك زمنياً سوى ساعة، أو أجزاء من الساعة. أما في ظلّ هذا "الغول"، فإن أمر الرحلة سيتعدّى الساعة ليغدو ساعات، بسبب "الأفعى" المتمدّدة، بدهاء مخطّط له، بين شوارع الضفّة.