حيدر عبادي: إيران أولاً.. ما أشبه الليلة بالبارحة
عقب تكليفه بتشكيل الحكومة العراقية في يونيو/حزيران الماضي، خلفاً لسلفه نوري المالكي، أطلق حيدر عبادي جملة تصريحات تفيد برغبته وتوجهه إلى إقامة علاقات متوازنة مع دول الجوار مع إيلاء العلاقات مع دول الخليج، وبالذات مع المملكة العربية السعودية، اهتماماً خاصاً. وبدا الرجل، في تصريحاته هذه، عازماً على الافتراق عن نهج سلفه المالكي الذي تميز "حكمه"، بين أمور أخرى، بالتبعية لإيران.
عبادي عضو قيادي في حزب الدعوة الذي ينتمي إليه نوري المالكي، من دون أن تُعرف عنه، قبل توليه رئاسة حكومة بلاده، مواقف حادة تسوغ التغليب الطائفي والالتحاق بالجار الكبير، غير أن الحزب نفسه، بتسميته الدينية، ولونه الطائفي ونشأته منذ ستينات القرن الماضي، تجعله امتداداً عراقياً لأذرعة الدعوة والتحشيد في طهران، وذلك بعد أن سارع الحزب للتلاقي مع ثورة الإمام الخميني، ولم تفترق طريق الحزب منذ ذاك عن طهران، بل أصبح شديد الالتصاق بها. ومنذ سقوط نظام الرئيس السابق، صدام حسين، خاض حزب الدعوة غمار التنافس الشديد مع سائر التنظيمات الشبيهة، وخصوصاً المجلس الأعلى للثورة الإسلامية (عبد العزيز الحكيم ثم خلفه نجله عمار).
وفيما أرسل عبادي إشارات ود نحو دول الخليج، ما إن تولى الحكومة، فإنه اختار طهران كي تكون أول محطة يزورها، ابتداء من الاثنين 20 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، كرئيس للوزراء (شارك قبل ذلك في سبتمبر/أيلول الماضي في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة).
سبقت الزيارة تصريحات عدة لعبادي رفض فيها مشاركة قوات عربية وأجنبية في الحملة على داعش. وقد اختلطت تسميات قوات عربية وأجنبية في تصريحاته، حتى بدت تسمية واحدةً، تدل على الشيء نفسه. وبصورة متزامنة، كانت طهران تصدر التصريحات تلو التصريحات عن رفضها وجود قوات أجنبية على أرض العراق.
قبل ذلك، كان حيدر عبادي، بصفته رئيساً للحكومة، قد دعا إلى حشد شعبي، لمواجهة داعش، فإذا بهذا الحشد يتكون من تجميع ميليشيات طائفية، سبق أن برزت على السطح، متمتعة برعاية رسميةٍ، طوال عهد حكومة المالكي. وبدا أن شيئاً لم يتغير على الأرض بهذا الخصوص، خلافاً لتصريحات الرجل اللينة التي تراعي، لفظياً، الوحدة الوطنية. تكمن الخطورة في إضفاء طابعٍ، ميليشيوي طائفي، على الحشد الشعبي المواجه لداعش، في أنه يكرس الانقسام، ويصور الحملة على داعش حملة طائفة على أخرى، خلافاً لما يفترض أن تكون عليه حملة وطنية، يشارك فيها الجميع ضد الإرهاب، وتتعزز فيها قيم الوحدة الوطنية. وفي واحدة من الصور النادرة، التقطت صورة لقاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني على أرض المعركة في العراق، مصحوباً بأفراد من ميليشيات عراقية. لم تنف السلطات في بغداد وجود الرجل، ولا بررت وجوده في هذه الظروف.
ومع اكتمال تشكيل الحكومة العراقية، جرت تسمية مسؤول في فيلق بدر، هو محمد سالم الغبان، وزيراً للداخلية، من دون أن يتخلى الرجل عن موقعه في فيلقه، والأهم أن النفوذ الميليشيوي بات في ظل حكومة عبادي سُلّماً يرتقي إليه الطامحون في دمج الميليشيات والحكومة في قوام سلطوي واحد، بمعرفة عبادي وموافقته.
في طهران، محطته الأولى إلى العالم الخارجي، حظي الرجل بحفاوة بالغة، باعتباره يعرف من أين يبدأ. والتقاه رئيس الجمهورية، حسن روحاني، والمرشد الأعلى، آية الله خامئني. وسمع كلاماً من المرشد، من قبيل "الأمن في العراق مهم جداً لإيران، والجمهورية الإسلامية تعتبر أمن العراق من أمنها". و"سندافع عن حكومتكم، كما دافعنا عن الحكومة السابقة، ولا حاجة للوجود الأجنبي في بلادكم". فيما قال حيدر عبادي بالمناسبة "إن اختيار إيران أول محطة خارجية لي يؤكد عمق الأواصر، ورؤية البلدين الخاصة للمستقبل".
الرؤية الخاصة للمستقبل كما تنبئ كل المؤشرات، حتى الآن، هي مواصلة التغليب الطائفي، وتكريس النفوذ الإيراني في العراق ودول أخرى، واعتبار طهران مرجعية سياسية عليا، والتخلي أكثر فأكثر عن سيادة العراق واستقلاله، وعن هويته العربية وعلاقته العضوية التاريخية بمحيطيه، الإقليمي والقومي، وهي السياسة التي دأب نوري المالكي على التقيد بها وتكريسها، وأدت إلى الكوارث في بلاد الرافدين، وحظي بذلك بدفاع طهران عن حكومته حتى آخر رمق (وليس معلوماً في العلاقات الدولية كيف يدافع بلد عن حكومة.. في بلد مستقل آخر!)، إلى أن تم استبدال المالكي بزميل له من الحزب نفسه.
يستند عبادي، في نهجه الداخلي، إلى تغطية برلمانية لقراراته. وقد جرت الانتخابات، في وقت سابق، من العام الجاري في عهد المالكي، وفقاً لمنظور هذا الرجل. المنظور الإقصائي والاستئثاري، بتسخير الأجهزة الحكومية ومواردها في خدمة مرشحين بعينهم، وقوائم (كيانات) بذاتها. وقد أحصي، آنذاك، وجود 11 قائمة "حزبية" مؤيدة لحزب الدعوة!. كما تم الإفساح في المجال واسعاً أمام الميليشيات المسلحة، لكي تخوض الانتخابات بصفتها هذه، وقد خاضتها تحت سطوة السلاح والتعبئة الطائفية الصريحة والمال السياسي، الداخلي والخارجي، وفازت فيها التنظيمات الطائفية، ورديفتها الميليشيات بالأكثرية. وهؤلاء، الآن، هم الأغلبية الذين يدعمون قرارات عبادي، ويضفون عليها "الشرعية الدستورية "، كما يشاركون في صنعها.
تؤدي هذه السياسة، بين ما تؤدي إليه، إلى زعزعة الوحدة الوحدة الوطنية، وتكريس الانقسام وتعظيم الاستقطاب، وفي هذا الجو المسموم، يتدهور الأمن، وتختلط المطالبات والتظلمات بالعنف والإرهاب، كما يختلط الدفاع عن الدولة وشرعيتها بالعنف والإرهاب أيضاً.
ما أشبه الليلة بالبارحة.. لا يكفي أن يختلف عبادي بمزاياه الشخصية وبأسلوبه الرصين الخاص عن نوري المالكي، إذ يتعين أن ينتهج سياسة أكثر اتزاناً وموضوعية عن سلفه، وهو ما لم يفعله، حتى الآن، مكتفياً بـ"التحشيد الشعبي" ذي الصبغة الأحادية حوله، بدلاً من النهوض بالمهمة الوطنية السامية: تمثيل جميع العراقيين بأمانة، وتمتيعهم بالمساواة والكرامة، وعدم ترجمة التعاون وحسن الجوار مع دولة بعينها إلى تبعية كاملة لها، تبعية تهدر السيادة والاستقلال.