مرة أخرى لا يتصدّر يوسف الصدّيق (1943) المشهد الإعلامي بعد نشر كتاب أو إلقاء محاضرة، وإنما يأتي ذلك بعد حادثة تشكيك (جديدة) في عقيدته. مثل الصدّيق في هذا الأمر مثل أبرز المفكرين التونسيين؛ فلا يتداول الناس أسماءهم إلا في تجاذبات السياسة والدين.
ومع كل حادثة مشابهة، يغيب أكثر البعد الفكري لـ"الصدّيق"، ولا يبقى سوى ذلك الضجيج الذي تنفخ فيه وسائل الإعلام، حتى بات بالنسبة للبعض مجرّد اسم مثير يتحدّث بجرأة، فريق يدافع عنه فيما يهاجمه آخر. تصوّرٌ يترسّخ بعد الزوبعة التي أثارها أخيراً رئيس "المجلس الإسلامي الأعلى" حين شبّهه بـ"سلمان رشدي" ما اعتبر تكفيراً.
سرعان ما تحرّك المثقفون والناشطون للدفاع عن الصدّيق، مستغربين أن يأتي التكفير من إحدى مؤسسات الدولة؟ بعد ذلك، ماذا يفيد انتصار الدولة للصدّيق بعزل رئيس "المجلس الإسلامي الأعلى"؟ المسألة أبعد من خسائر المواقع والحروب الكلامية، فالمطبّ الحقيقي هو أن هذه المعارك باتت تستهلك تقريباً كل الجهد الفكري للنخب.
الصدّيق، الذي أتى عالم الفكر والمعرفة من تربية تقليدية نواتها كتب الدين والشعر القديم، يبدو مثل سقراطٍ معاصر، أو سفسطائي في نظرة أخرى إليه، لا يتوقّف عن المشاكسة والتقدّم في مغامرة التفكير.
في دراساته الأكاديمية، اتجه نحو الفلسفة الغربية باحثاً في أصولها المعاصرة (سبينوزا) والقديمة (اليونان) قبل الانغماس في الأنثروبولوجيا. فجأة، أخذ الصدّيق منعطفاً في نهاية الستينيات، مُولّياً وجهه شطر إشكاليات حضارته الأمّ يدرسها ويتكلّم فيها بالأدوات المعرفية التي اكتسبها.
لعلّ علاقته بالثقافة الفرنسية مؤشر مهم نتلمّس من خلاله أعماق الصدّيق التي يخفيها غموضه. فرغم أن الفرنسية هي لغة معظم مؤلفاته، ورغم استقراره لسنوات طويلة في باريس، فإنه يظل نموذجاً (نادراً) لمثقف تونسي عرف كيف ينفصل عن هيمنة المثال الثقافي الفرنسي، حتى إنه قال ذات يوم "لقد أضرّ الاستعمار بمتعتي بالمعرفة".
في السبعينيات، خاض مغامرة أخرى، حين وجد في الصحافة مجالاً يتحرّك فيه شغفه المعرفي. الصحافة التي قادته مرة أخرى إلى باريس، كما جعلته شاهداً على حرب لبنان كمراسل لجريدة تونسية.
في مؤلفاته، هو نقيض الرجل الهادئ الذي تراه الأعين. هو كما قيل عن إحدى الشخصيات الروائية، "خطر على طمأنينتك". منهجه "المعرفة القلقة" فلا يتورّع عن إلغاء أي مسلّمة وإعادة البناء من الصفر. هذا المنهج هو الذي يخلق ذلك التعارض بينه وبين المؤسسات والجمهور، جاعلاً منه ذلك "المتهم على الدوام".
لعل سؤاله الشهير "هل قرأنا القرآن؟"، وهو عنوان كتاب صدر بالعربية (2013) وبالفرنسية (2004)، قد أتى نتيجة تراكم محاولات المفكر التونسي لمعالجة النصّ المحوري للإسلام على ضوء ما حصّله من خبرات ومعارف، واشتغال على القرآن نفسه من خلال ترجمته إلى الفرنسية، أو في مشروع إخراجه في شكل رسومات للأطفال.
كان هذا المشروع أول صدام عنيف له مع المؤسسة الدينية التي منعت استكمال إصدار الأجزاء السبعة التي كان يزمع نشرها. وكأن دائرة الصدام والتنافر بين المؤسسة الدينية وفكره عادت لتنغلق مرة أخرى في صيف 2011. هذا دون اعتبار المناوشات الكثيرة التي تطاوله باستمرار من قبل متطرّفين.
حين يتكلم، يحبّ الصدّيق أن يأخذ وضع حكيم هادئ في جلسته ونبرة حديثه، رغم جرأة ما يطرح من الأفكار. وهو دائماً ما يبدو مستمتعاً في نقاشاته بممارسة الجدل واللعب بالحجج.
إنه في مكان ما من برج أفكاره، كثيراً ما يفصلنا عنه العلوّ الشاهق لهذا البرج. تماماً كما يفصلنا عنه اليوم حاجز الضجيج الذي يحيط به. قطبان يصنعان ليوسف الصدّيق حضوراً خاصاً ومتوتراً، وحضوره هذا هو عين غيابه، غيابه الفكري.