تطالع خالتي واجهات المحال الفخمة بعينيها الرماديتين، ولا تبتعد كثيراً حتّى تصل إلى محل بيع المرطبات الأشهر في المكان، فتبتاع منه ما تحبّ من الجيلاتي "البوظة"، المختلفة الأطعام والمزيّنة بالمكسّرات صيفاً.
أما في الشتاء فهي تبتاع منه كوباً بلاستيكياً من السحلب الساخن والمزيّن أيضاً بالمكسّرات، وتعود إلى مكانها تمارس هوايتها التي انتظمت عليها لسنوات.
ميدان الجندي المجهول بالنسبة إليها هو المكان الذي يُشعرها بأنّها تعيش مثل باقي أهل غزّة. فمنهم الأثرياء ومنهم الفقراء ومنهم متوسّطو الحال... وكلّهم يتجمّعون ويلتقون في هذا المكان، ويتكاثرون في مواسم الأعياد والإجازات. فلا عجب أن يجمع الميدان الفرقاء وهم من فرّقتهم السياسة منذ سنوات.
في هذا الميدان تجد الفتاة التي ترتدي الملابس المتحرّرة، وترى بالقرب منها امرأة محجّبة وأخرى منقّبة، ورغم ذلك لم تمنعهم انتماءاتهم الحزبية ومعتقداتهم الدينية من التواجد سويّاً، للاحتفال بالمناسبات التي لا تتكرّر كثيراً كلّ عام.
حين تزوّجت بناته وذهبت كلّ منهنّ إلى منطقة مختلفة من أحياء غزّة، جعلت الميدان مكان لقائها بهنّ بعيداً عن تلصّص حمواتهنّ وشقيقات أزواجهنّ. فلم تحظَ أيّ واحدة من بناتها السبع بزيجة ثرية مريحة. وعِشنَ يعانين اضطهاد عائلات الأزواج ولم تُطِق الأم زيارة بناتها في بيوتهنّ وأن ترى ما يكابدنه بعينيها.
وهذا السبب الذي دفعها لجعل الميدان مكانا للقائها بهنّ. وحين يعرفن موعدها اليومي ويَفِدنَ واحدة تلو الأخرى، أو كلّ بحسب وقتها ومزاج زوجها، يجلسنَ معها ويشربنَ المشروبات الشعبية الرخيصة مثل العرقسوس والخرّوب، وتبثّ كلّ واحدة شكواها إلى الأم، قليلة الحيلة، والتي لا تتوقّف عن تنقيل عينيها في أرجاء المكان الفسيح حولها.
فميدان الجندي المجهول الذي أُقيم حول قبر جندي فلسطيني مجهول في العام 1957، دمّرته قوّات الاحتلال الإسرائيلي في العام 1967، ثم أُعيد بناؤه أكثر من مرّة، حتّى وصل الحال به إلى أن يصبح ملتقى ومكان اجتماع من أثقلهم الحصار والفقر والبطالة وسوء الحال.
إذ لم يعد في مقدور أرباب الأسر ارتياد الملاهي المكلفة ولا المطاعم والكافتيريات التي تحتاج ميزانية مرهقة، فوجدوا في الميدان مكاناً لتناول وجبات شهية وخفيفة وزهيدة الثمن. ويرافقها متعة المنظر وروعة المكان.
لا يمكن أن يجلس المرء على مقعد إسمنتي في حديقة الجندي المجهول، ولا يرى الفتيات القادمات من المخيّمات القريبة واللواتي يرين أنّ هذا الحي هو أكثر رقيّاً من مناطق سكناهنّ.
يلتقين هنا بصديقاتهنّ اللواتي يسكنّ أحياء غزّة الراقية، كما يمكنه أن يرى الحنطور الذي تمّ تقليده من التراث المصري يجوب المكان ويركبه الصغار والكبار وهم يهلّلون ويغنّون، فيما تبرز أكثر علامات سوء الأوضاع في غزة حين يتكاثر حول الجالس في المكان الباعة الجائلون، شبّاناً وأطفالاً، وهم يعرضون في إلحاح بضائعهم الرخيصة.
لا يخلو المشهد من سيّارات صغيرة يركبها الصغار ويجرّها الكبار، مقابل مبالغ بخسة. لكنّ علامات الفرح تعلو وجوه الصغار، مع حبّات العرق المتساقطة من جبين من يجرّها مرّات ومرّات حول المكان، وطوال النهار.
استمرّت خالتي تقضي مساءاتها في ميدان الجندي المجهول، إلى أن ضاق الحال بأولادها ولم يعد لديهم مصدر دخل في المدينة الكبيرة، فقرّروا العودة إلى مسقط رأس الأب حيث تقع قريته جنوب قطاع غزّة. فباعوا البيت وانتقلوا مع خالتي إلى العيش في القرية الجنوبية.
ما هي إلا شهور قليلة حتّى استقرّ بهم المقام وبدأوا في زراعة الأرض وفلاحتها، كما يفعل أقاربهم، مقابل أجور تسدّ رمق صغارهم.
لكنّ خالتي لم تمكث طويلا في المكان، لأنّها لم تتوقّف عن الحنين إلى الميدان والحديث عنه في جلساتها مع جاراتها القرويات، وهنّ اعتقدن أنّها أصحبت عجوزا خَرِفَة. فهي تروح تحدّثهنّ عن أشياء وهمية وخرافية. إذ لا يمكن أن يكون في غزّة مكانٌ بروعة ما تصف وتتخيّل.
حين كفّت النسوة عن التجمّع حولها... ماتت خالتي.
أما في الشتاء فهي تبتاع منه كوباً بلاستيكياً من السحلب الساخن والمزيّن أيضاً بالمكسّرات، وتعود إلى مكانها تمارس هوايتها التي انتظمت عليها لسنوات.
ميدان الجندي المجهول بالنسبة إليها هو المكان الذي يُشعرها بأنّها تعيش مثل باقي أهل غزّة. فمنهم الأثرياء ومنهم الفقراء ومنهم متوسّطو الحال... وكلّهم يتجمّعون ويلتقون في هذا المكان، ويتكاثرون في مواسم الأعياد والإجازات. فلا عجب أن يجمع الميدان الفرقاء وهم من فرّقتهم السياسة منذ سنوات.
في هذا الميدان تجد الفتاة التي ترتدي الملابس المتحرّرة، وترى بالقرب منها امرأة محجّبة وأخرى منقّبة، ورغم ذلك لم تمنعهم انتماءاتهم الحزبية ومعتقداتهم الدينية من التواجد سويّاً، للاحتفال بالمناسبات التي لا تتكرّر كثيراً كلّ عام.
حين تزوّجت بناته وذهبت كلّ منهنّ إلى منطقة مختلفة من أحياء غزّة، جعلت الميدان مكان لقائها بهنّ بعيداً عن تلصّص حمواتهنّ وشقيقات أزواجهنّ. فلم تحظَ أيّ واحدة من بناتها السبع بزيجة ثرية مريحة. وعِشنَ يعانين اضطهاد عائلات الأزواج ولم تُطِق الأم زيارة بناتها في بيوتهنّ وأن ترى ما يكابدنه بعينيها.
وهذا السبب الذي دفعها لجعل الميدان مكانا للقائها بهنّ. وحين يعرفن موعدها اليومي ويَفِدنَ واحدة تلو الأخرى، أو كلّ بحسب وقتها ومزاج زوجها، يجلسنَ معها ويشربنَ المشروبات الشعبية الرخيصة مثل العرقسوس والخرّوب، وتبثّ كلّ واحدة شكواها إلى الأم، قليلة الحيلة، والتي لا تتوقّف عن تنقيل عينيها في أرجاء المكان الفسيح حولها.
فميدان الجندي المجهول الذي أُقيم حول قبر جندي فلسطيني مجهول في العام 1957، دمّرته قوّات الاحتلال الإسرائيلي في العام 1967، ثم أُعيد بناؤه أكثر من مرّة، حتّى وصل الحال به إلى أن يصبح ملتقى ومكان اجتماع من أثقلهم الحصار والفقر والبطالة وسوء الحال.
إذ لم يعد في مقدور أرباب الأسر ارتياد الملاهي المكلفة ولا المطاعم والكافتيريات التي تحتاج ميزانية مرهقة، فوجدوا في الميدان مكاناً لتناول وجبات شهية وخفيفة وزهيدة الثمن. ويرافقها متعة المنظر وروعة المكان.
لا يمكن أن يجلس المرء على مقعد إسمنتي في حديقة الجندي المجهول، ولا يرى الفتيات القادمات من المخيّمات القريبة واللواتي يرين أنّ هذا الحي هو أكثر رقيّاً من مناطق سكناهنّ.
يلتقين هنا بصديقاتهنّ اللواتي يسكنّ أحياء غزّة الراقية، كما يمكنه أن يرى الحنطور الذي تمّ تقليده من التراث المصري يجوب المكان ويركبه الصغار والكبار وهم يهلّلون ويغنّون، فيما تبرز أكثر علامات سوء الأوضاع في غزة حين يتكاثر حول الجالس في المكان الباعة الجائلون، شبّاناً وأطفالاً، وهم يعرضون في إلحاح بضائعهم الرخيصة.
لا يخلو المشهد من سيّارات صغيرة يركبها الصغار ويجرّها الكبار، مقابل مبالغ بخسة. لكنّ علامات الفرح تعلو وجوه الصغار، مع حبّات العرق المتساقطة من جبين من يجرّها مرّات ومرّات حول المكان، وطوال النهار.
استمرّت خالتي تقضي مساءاتها في ميدان الجندي المجهول، إلى أن ضاق الحال بأولادها ولم يعد لديهم مصدر دخل في المدينة الكبيرة، فقرّروا العودة إلى مسقط رأس الأب حيث تقع قريته جنوب قطاع غزّة. فباعوا البيت وانتقلوا مع خالتي إلى العيش في القرية الجنوبية.
ما هي إلا شهور قليلة حتّى استقرّ بهم المقام وبدأوا في زراعة الأرض وفلاحتها، كما يفعل أقاربهم، مقابل أجور تسدّ رمق صغارهم.
لكنّ خالتي لم تمكث طويلا في المكان، لأنّها لم تتوقّف عن الحنين إلى الميدان والحديث عنه في جلساتها مع جاراتها القرويات، وهنّ اعتقدن أنّها أصحبت عجوزا خَرِفَة. فهي تروح تحدّثهنّ عن أشياء وهمية وخرافية. إذ لا يمكن أن يكون في غزّة مكانٌ بروعة ما تصف وتتخيّل.
حين كفّت النسوة عن التجمّع حولها... ماتت خالتي.