بدأت علاقة الأرجنتين مع صندوق النقد الدولي في وقت مبكر مقارنة بمعظم دول العالم، حيث استنجدت بوينس آيرس بالصندوق قبل أكثر من 60 سنة، وحصلت بالفعل على أول قرض في عام 1958، ومنذ ذلك الوقت ربطت الأرجنتين مستقبلها واقتصادها وعملتها وموازنتها بمطالب الصندوق الذي أبرمت معه 22 اتفاقية حصلت من خلالها على قروض ضخمة.
وعلى مدى سنوات طويلة اندفعت حكومات الأرجنتين المتعاقبة على الصندوق لاغتراف الأموال السهلة منه ظناً منها أن قروضه ستنقذ البلاد وعملتها من الانهيار، وتضع الاقتصاد المأزوم دوماً "على التراك" وتمنحه التعافي وتبعد عنه خطر الإفلاس، وتعيد الاستثمارات الأجنبية الهاربة، وتحل المشاكل الاجتماعية الملحة ومنها البطالة والفقر والركود وقفزات الأسعار والتضخم، وغيرها من المنغصات المالية، وتعيد كذلك الهدوء إلى سوق الصرف المضطربة والعملة "البيزو" التي شكل انهيارها المتواصل حرجا شديدا للحكومات، وتحدياً للاستقرار المالي والاقتصادي، بل والسياسي.
لكن ذهبت كل هذه الأهداف أدراج الرياح، وعانت الأرجنتين من أزمات اقتصادية متلاحقة خاصة في فترة الحكم العسكري الذي حكم من 1976-1983، وسببت سنوات الديكتاتورية العسكرية الكثيرة للأرجنتين مشاكل اقتصادية شديدة قبل أزمة الكساد العظيم التي شهدتها البلاد في الفترة من 1998-2002.
وبدلاً من حدوث ذلك الاستقرار المنشود، شهدت الأرجنتين إفلاسات متواصلة وحالات تعثر متعددة، منها مثلاً ما حدث في العام 1999 حيث انفجرت الأوضاع الاقتصادية عقب وصول متوسط الدين إلى مستويات غير مسبوقة (132 مليار دولار)، وكذا في عام 2001 حيث عجزت عن سداد قروض بقيمة 132 مليار دولار عقب تراجع الناتج المحلي بنسبة 28% وزيادة معدل البطالة إلى أكثر من 20%. وبسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية شهدت البلاد حالة من عدم الاستقرار السياسي حيث تعاقب على حكم الأرجنتين ثلاثة رؤساء في الفترة من 1999-2002.
صحيح أن حكومات بوينس آيرس مارست في بعض الأوقات لعبة القط والفأر مع الصندوق، من حيث تعبئة الرأي العام ضده واتهامه بتعطيل الإصلاحات الاقتصادية والتذكير بمواقفه السلبية، وذلك كلما تعرضت البلاد لمخاطر الركود والتعثر المالي وهروب الأموال الأجنبية الساخنة وتفاقم الدين العام وفقدان الثقة في الاقتصاد والعملة المحلية.
لكن هذه الحكومات كانت تخضع في النهاية لشروط صندوق النقد القاسية والمهينة، خاصة المتعلقة بتعويم العملة وزيادة الضرائب وأسعار السلع والخدمات وبيع أصول الدولة، ورفع سعر الفائدة على العملة المحلية بمعدلات قياسية وصلت إلى 60% في بعض السنوات، والتوسع في سياسة الاقتراض الخارجي، وهو ما فاقم من أزمة الدين رغم الإمكانيات الضخمة التي يتمتع بها اقتصاد البلاد، ثالث أكبر اقتصاد في أميركا اللاتينية ورابع أكبر اقتصاد في نصف الأرض الجنوبي، خاصة على مستوى الصادرات والقطاع الزراعي والقاعدة الصناعية.
ومع كل حالة تعثر تندفع الأرجنتين أكثر نحو صندوق النقد الدولي لتحصل في العام 2018 على أكبر قرض في تاريخ المؤسسة المالية الدولية بقيمة 57 مليار دولار، ساعتها ظنت الحكومة أن هذا القرض السخي كاف لطمأنة الأسواق المحلية والأجنبية على حد سواء، خاصة وأنها ستمكنها من سداد الديون الخارجية ومستحقات أصحاب السندات الدولية.
لكن بعد أقل من عامين لعمر أكبر قرض في تاريخ الصندوق، عاودت الأرجنتين اللجوء إلى المؤسسة الدولية للخلاص من حصار المقرضين الذي يهدد أكبر اقتصادات أميركا الجنوبية بالإفلاس، وطلبت الحكومة رسميا، فجر أمس الخميس، بدء مفاوضات مع الصندوق للحصول على قروض جديدة.
ستحصل الأرجنتين على قرض جديد من الصندوق كما هو متوقع، ومع هذا القرض تغرق البلاد أكثر في الأزمات الاقتصادية والدين الخارجي الذي أعادت الحكومة هيكلة 63 مليار دولار منه مؤخرا بسبب صعوبات في السداد، ومعها يغرق المواطن في الأزمات المعيشية والغلاء وفقدان فرص العمل.
ما يحدث في الأرجنتين هو درس قاس لكل دول العالم التي تستسهل الحصول على قروض من صندوق النقد وغيره من المؤسسات المالية الدولية دون الاعتماد على الموارد الذاتية، وترشيد الإنفاق العام، وعدم الإساءة لموارد الدولة، وإهمال ملفات مكافحة الفساد ووقف نهب المال العام.
وعلى الدول العربية أن تأخذ العظة والعبرة من تجربة الأرجنتين، فلا الصندوق أنقذها من مخاطر التعثر والفقر وتهاوي العملة كما زعم، ولا البلاد باتت قادرة على إعادة التعافي لاقتصادها أو سداد الديون المستحقة عليها، وكما يقولون فإنه نادرا ما ينتهي الالتزام الأعمى بوصفات صندوق النقد نهاية سعيدة، وهو ما رأيناه من قبل في روسيا والأرجنتين، وربما في بعض الدول العربية مستقبلاً.