30 أكتوبر 2024
خسرو شاهي... لم يسمعه السياسيون
عادةً، ما تكون الحقيقة، في الحروب، الضحية الأولى، وقد ضاعت حقائق كثيرة في حرب العراق وإيران التي اعتدنا استعادة أحداثها، في مثل هذه الأيام كل عام. لم يترك لنا هذا العام، على يبدو، فسحة كافية للبحث والاستذكار، بعد أن تكاثرت حروبنا وتناسلت، إلى درجة أن البحث في خبايا الحروب الماثلة أصبح مطلوباً أكثر من النبش في خفايا حربٍ أصبحت جزءاً من الماضي.
لم أعدم الفرصة، وأنا أقلب في أوراقي المعتقة، لأن أستعيد أول مبادرة إيرانية مجهولة لوقف الحرب، ولم يعرف عنها كثيرون. كنت الشاهد الأول عليها، وكان بطلها سيد هادي خسرو شاهي، عالم الدين والباحث والمفكر والدبلوماسي النشيط، وكانت مبادرة رجال فكر ومثقفين رأوا في الحرب ما لم يره السياسيون والعسكر، الغارقون في تداعيات السلطة وأوهامها.
بدأت الحكاية منتصف عام 1983، صادف أن كنت أحضر حفلاً لسفارةٍ في روما، بصفتي مستشاراً إعلامياً في سفارة العراق. تقدّم مني صديق فلسطيني، ليبلغني أن سيد هادي خسرو شاهي، سفير إيران في الفاتيكان، وكان على بعد خطوات مني، يود الحديث معي، ويسألني عمّا إذا كنت مستعداً لذلك، وعندما أبلغته بالإيجاب، تصافحت مع شاهي، وكان كلانا يعرف الآخر من بعيد، إذ سبق أن تناوبنا على كتابة مقالات في موضوعة الحرب، باسمين مستعاريْن، على صفحات جريدة الأيام العربية، بمبادرةٍ طيبة من رئيس تحريرها، صديقنا المشترك الشاعر الفلسطيني الراحل راضي صدوق، لكن كلاً منا كان عارفاً بهوية الآخر.
بدأ الدبلوماسي الإيراني الذي كان يشرف على نشاطات بلاده الاستخبارية في أوروبا حديثه بمقدمةٍ سريعةٍ، عمّا تلحقه الحرب بالشعبين الجارين من مآسٍ وآلام، ليخلص إلى أن القيادة الإيرانية ترى إمكانيةً لاستكشاف آفاق للحل، وإنه يعتبر ما يقوله بمثابة رسالةٍ يريد أن تصل إلى الرئيس صدام حسين، فإذا حصلت استجابة، يمكن عقد اجتماع أولي، في دولة ثالثة، بين ممثليْن عن البلدين. لم يدل بتفاصيل أخرى، وقدّرت، وإنْ لم يفصح عن ذلك، أن هناك تياراً داخل النظام يؤمن بضرورة وقف الحرب، ورأيت أن من مصلحة العراق وإيران أن ينمو هذا التيار ويتطور. ولم يستغرق حوارنا الذي لم يلفت نظر أحد، سوى دقائق، انتهت بتبادل التحيات، والتمني بأن يسود السلام بين البلدين الجارين.
كتبتُ إلى بغداد بتفصيل ما حدث، لكن بغداد تجاهلت المقترح، ولم تُعره اهتماماً، ثم شاءت المصادفات أن أُنقل من روما إلى موقع عمل جديد، من دون أن يحصل أي لقاء أو اتصال آخر بيني وبين الدبلوماسي الإيراني الكبير، وعرفت أن المبادرة أُجهضت، وهي في المهد.
خلاصةٌ واحدة يمكن أن يصل إليها المرء، هي أن أصوات العسكر والسياسيين، وخصوصاً قصيري النظر، عادةً ما تطغى في أوقات الحروب على أصوات رجال الفكر والمثقفين، حيث ينظر هذا النمط من السياسيين والعسكر إلى وجهات نظر المثقفين على أنها خارج الحقيقة، ومجافية للواقع. وفي النهاية، عندما يكتشف من بقي من الناس كم حصدت الحرب من أرواح، وكم دمّرت من بنى، وكم استهلكت من ثروات، يدركون كم كانت وجهات نظر المفكرين والمثقفين على صواب، لكن أَحداً من السياسيين قصيري النظر والعسكر لم يستمع إليها.
نقرّ لخصمنا خسرو شاهي بأنه من طراز فريد، هو رجل فكر وعلم ومعرفة، يكفي أنه قدم لنا مؤلفات جمال الدين الأفغاني الكاملة، بعد أن أنفق خمسين عاماً في مراجعتها، وتحقيقها، ويكفي أنه دعا وسعى إلى التقريب بين المذاهب، وظلَّ على صلاته الوثيقة بقيادات إسلامية عربية معتدلة، وإنْ أخذته السياسة، كما أخذته الدبلوماسية، وقد استطاع أن يفلت من قيودهما، مساهماً في نشاطاتٍ فكرية عديدة، أعطته ميزة تبصّر الأحداث والظواهر، على نحو تفوّق فيه على أنداده من السياسيين ورجال الدين الذين يرونها بعينٍ واحدةٍ منكسرة. ولو دعم السياسيون والعسكر الإيرانيون مبادرة خسرو شاهي التي مثلت مثقفي إيران ومفكريها، ولو قبلها السياسيون والعسكر العراقيون، لكنا جنّبنا الشعبين مآسيَ وآلاماً كثيرة، لكن الأمور لا تسير دائماً كما نشتهي ونريد.
لم أعدم الفرصة، وأنا أقلب في أوراقي المعتقة، لأن أستعيد أول مبادرة إيرانية مجهولة لوقف الحرب، ولم يعرف عنها كثيرون. كنت الشاهد الأول عليها، وكان بطلها سيد هادي خسرو شاهي، عالم الدين والباحث والمفكر والدبلوماسي النشيط، وكانت مبادرة رجال فكر ومثقفين رأوا في الحرب ما لم يره السياسيون والعسكر، الغارقون في تداعيات السلطة وأوهامها.
بدأت الحكاية منتصف عام 1983، صادف أن كنت أحضر حفلاً لسفارةٍ في روما، بصفتي مستشاراً إعلامياً في سفارة العراق. تقدّم مني صديق فلسطيني، ليبلغني أن سيد هادي خسرو شاهي، سفير إيران في الفاتيكان، وكان على بعد خطوات مني، يود الحديث معي، ويسألني عمّا إذا كنت مستعداً لذلك، وعندما أبلغته بالإيجاب، تصافحت مع شاهي، وكان كلانا يعرف الآخر من بعيد، إذ سبق أن تناوبنا على كتابة مقالات في موضوعة الحرب، باسمين مستعاريْن، على صفحات جريدة الأيام العربية، بمبادرةٍ طيبة من رئيس تحريرها، صديقنا المشترك الشاعر الفلسطيني الراحل راضي صدوق، لكن كلاً منا كان عارفاً بهوية الآخر.
بدأ الدبلوماسي الإيراني الذي كان يشرف على نشاطات بلاده الاستخبارية في أوروبا حديثه بمقدمةٍ سريعةٍ، عمّا تلحقه الحرب بالشعبين الجارين من مآسٍ وآلام، ليخلص إلى أن القيادة الإيرانية ترى إمكانيةً لاستكشاف آفاق للحل، وإنه يعتبر ما يقوله بمثابة رسالةٍ يريد أن تصل إلى الرئيس صدام حسين، فإذا حصلت استجابة، يمكن عقد اجتماع أولي، في دولة ثالثة، بين ممثليْن عن البلدين. لم يدل بتفاصيل أخرى، وقدّرت، وإنْ لم يفصح عن ذلك، أن هناك تياراً داخل النظام يؤمن بضرورة وقف الحرب، ورأيت أن من مصلحة العراق وإيران أن ينمو هذا التيار ويتطور. ولم يستغرق حوارنا الذي لم يلفت نظر أحد، سوى دقائق، انتهت بتبادل التحيات، والتمني بأن يسود السلام بين البلدين الجارين.
كتبتُ إلى بغداد بتفصيل ما حدث، لكن بغداد تجاهلت المقترح، ولم تُعره اهتماماً، ثم شاءت المصادفات أن أُنقل من روما إلى موقع عمل جديد، من دون أن يحصل أي لقاء أو اتصال آخر بيني وبين الدبلوماسي الإيراني الكبير، وعرفت أن المبادرة أُجهضت، وهي في المهد.
خلاصةٌ واحدة يمكن أن يصل إليها المرء، هي أن أصوات العسكر والسياسيين، وخصوصاً قصيري النظر، عادةً ما تطغى في أوقات الحروب على أصوات رجال الفكر والمثقفين، حيث ينظر هذا النمط من السياسيين والعسكر إلى وجهات نظر المثقفين على أنها خارج الحقيقة، ومجافية للواقع. وفي النهاية، عندما يكتشف من بقي من الناس كم حصدت الحرب من أرواح، وكم دمّرت من بنى، وكم استهلكت من ثروات، يدركون كم كانت وجهات نظر المفكرين والمثقفين على صواب، لكن أَحداً من السياسيين قصيري النظر والعسكر لم يستمع إليها.
نقرّ لخصمنا خسرو شاهي بأنه من طراز فريد، هو رجل فكر وعلم ومعرفة، يكفي أنه قدم لنا مؤلفات جمال الدين الأفغاني الكاملة، بعد أن أنفق خمسين عاماً في مراجعتها، وتحقيقها، ويكفي أنه دعا وسعى إلى التقريب بين المذاهب، وظلَّ على صلاته الوثيقة بقيادات إسلامية عربية معتدلة، وإنْ أخذته السياسة، كما أخذته الدبلوماسية، وقد استطاع أن يفلت من قيودهما، مساهماً في نشاطاتٍ فكرية عديدة، أعطته ميزة تبصّر الأحداث والظواهر، على نحو تفوّق فيه على أنداده من السياسيين ورجال الدين الذين يرونها بعينٍ واحدةٍ منكسرة. ولو دعم السياسيون والعسكر الإيرانيون مبادرة خسرو شاهي التي مثلت مثقفي إيران ومفكريها، ولو قبلها السياسيون والعسكر العراقيون، لكنا جنّبنا الشعبين مآسيَ وآلاماً كثيرة، لكن الأمور لا تسير دائماً كما نشتهي ونريد.