قامت معظم الأدبيات التي درست ظاهرة الاستعمار على جملة ثنائيات مبسّطة تستند إلى المركز والأطراف، والمتن والهوامش، حيث يعبّر المستعمِر عن قوة يصفها كثيرون من الباحثين بـ"الميتافيزيقية"، كونها تمتلك حضوراً مستقلاً عن أي واقع اجتماعي يعبّر عن نفسه كقوة احتلال، وفي أجهزة الدولة. تبرز في هذا السياق تنظيرات المفكّر الهندي هومي بابا حول ما أسماه "الفضاء الثالث"، في الإشارة إلى البعد المزدوج والمتناقض الذي يصاغ فيه النتاج الثقافي الذي يتولّد نتيجة الاشتباك الحاصل بين الشرق والغرب ويحمل عناصر من كلا الثقافتين، ما يدحض افتراض وجود نقاء للثقافات.
ضمن هذه المساحة، ينطلق الناقد والباحث السوري خلدون الشمعة في كتابه "المختلف والمؤتلف.. تمثيلات المركز الغربي والهامش العربي وشيطنة الآخر" الذي صدر حديثاً عن "منشورات المتوسط"، ويقترح فيه موشوراً تأويلياً مفتوحاً على جملة من القراءات الجادة لثقافة الآخر، وبذلك يتجاوز الكتاب شيطنة (Demonization) الآخر، مقترحاً سبراً نقدياً لشعريات المثاقفة، ممثلة بنماذج من الشعر والرواية، تختبر نوعين من الحركة، كل منهما يتجه في اتجاه معاكس للآخر.
مقترحات تتكئ على مخزون معرفي نوعيٍّ استطاع، خلال أكثر من أربعة عقود، تأصيل وتأسيس العديد من المفاهيم النقدية، من خلال اطلاع موسوعي على التعبيرات الأدبية والفنية والفكرية في الثقافة العربية؛ تراثاً ومعاصرة، ودراسته المعمقة للآداب الأوروبية والعالمية، من خلال تخصّصه الأكاديمي في الأدب المقارن. وما بين هذين الاتجاهين تستغرق تأملاته منذ زمن بعيد في التباسات العلاقة مع الآخر.
تتضافر هذه المعارف لدى الشمعة في سعي لمقاربة الراهن العربي، وهي ميزة لا نجدها لدى كثير من النقاد، وربما تمثّلت أهمّها في كتاباته حول الحراكات الشعبية، خاصة ما تعيشه بلده سورية، في سياق تفنيد مقولة هيغل حول الاستبداد الشرقي، التي تفترض أن العرب ليسوا على وفاق مع الحداثة.
يفرّق صاحب كتاب "النقد والحرية" بين الحداثة (Modernity) والحداثية (Modernism) عربياً، فهناك تأثير في الأخيرة عبر خلق مناهج جديدة متكئة على التجربة الثقافية الغربية من دون الانطلاق من الواقع العربي نفسه، ما أحبط إمكانية تطوّر النقد العربي من دون الاصطدام مع التراث، بل من خلال فهمه فهماً عميقاً.
يتحرّك الشمعة في إطار استيعابه للموشور التأويلي المفتوح الذي أشار إليه في تقديمه، حيث يعود إلى ترجمة ريتشارد بيرتون لـ"ألف ليلة وليلة" إلى الإنكليزية، والتي زوّدها بهوامش فاضحة، حاول فيها إشباع نزواته المقموعة التي لم يكن باستطاعته التعبير عنها في مجتمع فكتوري متشدد أخلاقياً، إذ صار هذا الشرق العربي الإسلامي خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر "المرآة الرمزية التي يرى الغرب نفسه بها. وبعبارة أخرى، فإن الاستشراق الأدبي هو صانع تلك المرآة الرمزية التي تعكس شرقاً خاصاً بالغرب يستجيب لحاجاته"، وفق الكتاب.
ويوضّح أنه على الرغم من الدور الذي لعبته المصادر الشرقية في صناعة الرومانتيكية، فإن أوروبا كانت آنذاك تلحّ على إبراز خصيصة الاختلاف بدلاً من الاعتراف بخصيصة التشابه، فما حدث ويحدث هو أن الفرضية الاستشراقية عن الشرق هي التي ظلّت مسيطرة، مستحضراً فرضية ميشيل فوكو التي تقول: "أنا أعلم بوجود الاختلاف، ولهذا فأنا أسيطر".
يقف المؤلّف عند دور الترجمة الذي يعدّه "ضرباً من ضروب الفتح" في إحالة إلى كلمة "فتح" العربية بجذرها اللغوي الحامل لكثير من الدلالات، وإلى فعل Translate بالإنكليزية ومعناه (يترجم) والذي يتحدر من الجذر اللغوي لفعل (يفتح، يغزو)، لافتاً إلى ما اكتسبه هذا الفعل من أهمية، خاصة في مجال "دراسات ما بعد الاستعمار"، وهو مجال يشغل حيزاً مركزياً في دائرة أوسع هي النقد الثقافي.
ويقدّم هنا نموذجاً مختلفاً في ترجمات عمر باوند، ابن الشاعر عزرا باوند، لقصائد مترجمة عن العربية، والذي لا ينقل فيها النص بحرفية، إنما من خلال الترجمة عبر الثقافية التي تتكفل بإيجاد نقاط لقاء بين الثقافتين المترجم منها وإليها، بحيث يخرج النص بعد الترجمة وكأنه كتب بالإنكليزية أصلاً، مستعيداً مقولة الجاحظ الشهيرة الذي يرى فيها أن "الشعر لا يُستطاع أن يترجم ولا يجوز عليه النقل".
يتطرّق الشمعة أيضاً إلى العديد من المسائل المهمة في فصل عنونه بـ"أفول عصر التنوير وصعود ما بعد الحداثة في الأدب العربي"، ضمن عدّة مستويات تتصل بالتشكيك في فكرة الأصالة في الأدب، وإزالة الحدود بين الأجناس الأدبية، وإزالة الحدود بين الأشكال الفنية، وإزالة الحدود بين ما يدعى بالأدب الرفيع وبين ثقافات الإعلام الجماهيري، وإيلاء فكرة الاختلاف أهمية استثنائية وتغليب المحلي والإثني والخاص على العالمي المرتبط بالنزعة المركزية الأوروبية.
من جهة أخرى، يدرس ما أسماه التحوّل الخطير الذي طرأ على مفهوم التحرّر النسوي في المجتمع العربي، ضمن التباسات ثلاثة، بما يتسم به من قداسة وممانعة لأي جدل أو جدال، إذ غالباً ما ينظر إليه بعيداً عن المفاهيم الوصفية التي تحسن التمييز بين "الحقائق" و"القيم"، وغيابه كذلك عن ميدان العلوم الإنسانية العربية، مبدياً خشيته بعد تحليل معمّق وثري بمرجعياته من "أن تكون المرحلة التي بلغها هذا المفهوم قد وصلت إلى ما يدعوه مؤرخو الفلسفة بمرحلة "الغلق، أي مرحلة سيطرة نظرية أو مذهب لديه القدرة على تفسير الظواهر كلها من دون أن يترك زيادة لمستزيد".
يحتشد الكتاب بالكثير من القضايا الملحّة في ثقافتنا المعاصرة، ومنها بدائية التجنيس النسبية في الأدب العربي الحديث التي أدت إلى التعامل مع الجنس الأدبي وكأنه مجرّد اسم دالٍ على نوع، وليس باعتباره مصطلحاً ينطوي على بُعد معرفي مستمد من خصائص متضمّنة في نظرية الأدب، أو في الأفكار الجديدة التي تناول خلالها تقنية القناع في الشعر العربي الحديث، من خلال مجموعة نماذج ونقود.
وكذلك في طروحاته حول العصرنة والغربنة؛ الموضوع القديم الجديد الذي يواجه المجتمعات العربية، أو في جدل الفلسفة واليومي، أو في تمثيلات "الآخر" في الفكر الغربي، وصولاً إلى ملاحظاته الثرية حول برنارد لويس كنموذج لشيطنة الآخر في الفكر الغربي، منتقداً نظرته إلى العربية كلغة عاجزة، وممارسته الحذف المخل عبر استبعاده شخصيات وأحداثا أساسية عند تعليقه على تاريخ الحضارة العربية، وفي ادعائه أن المسلم يفتقد لحس الفضول المعرفي خلافاً للأوروبي.