خمسة أيام تفصل تونس عن الجمهورية الثانية

21 أكتوبر 2014
عكست الحملات الانتخابية وعياً سياسياً مشتركاً (فرانس برس)
+ الخط -


يحمل موعد الانتخابات التونسية، يوم الأحد المقبل، دلالات تاريخية وسياسية متعددة بالنسبة إلى تونس، فضلاً عن رهانات وطنية وإقليمية ودولية عديدة. غير أنّ أهم رموز هذا اليوم تتمثل أساساً في تخطي الخطوة الأخيرة من مسار طويل للانتقال الديمقراطي، دام زهاء الأربع سنوات.  إنجاز هذه الخطوة سيمكّن التونسيين من إرساء أوّل مجلس لنواب الشعب بعد الثورة، وحكومة جديدة دائمة تنقل البلاد من طور المؤقت إلى وضع الدائم بصفة نهائية.

ويتخذ الدستور الجديد بهذا الشكل معناه الحقيقي باكتمال أغلب المسارات، واكتمال المؤسسات الدستورية التي تحميه ويحميها وينقل تونس بوضوح إلى الجمهورية الثانية. إنه موعد مع التاريخ ونقلة في حياة التونسيين تأخذهم إلى مصاف الدول المتحصنة دستورياً من الدكتاتورية.

وبهذا المعنى، تبدو الانتخابات موعداً حاسماً تعمل جميع المؤسسات على انجاحه بكل الجهد والحرص الممكنين. وتضع البلاد كل امكانياتها التنظيمية والأمنية لإنجاحه، حتى تكون محطة الانتخابات نزيهةً وحرةً وشفافةً لا يرقى إليها تشكيك، وتقبل بها كل القوى السياسية المحلية والتنظيمات المراقبة. ويعدّ تحصيل الإجماع ضروري جداً كي تحظى المؤسسات المنبثقة عن هذه الانتخابات بالشرعية الحقيقية، التي تتيح الدخول للمرحلة المقبلة في ظل اريتاح سياسي ضروري للسنوات الخمس المقبلة.

وبالرغم من أنّ ضجيج الانتخابات الرئاسية قد علا وكاد أن يغطي على السباق التشريعي، إلا أنّ الانتخابات التشريعية المقبلة تبقى الأهم باعتبار أنّها ستفضي إلى تأسيس السلطتين الأهم في النظام السياسي التونسي الجديد، البرلمان والحكومة، اللتين تمسكان بالصلاحيات الأكبر في تسيير شؤون الدولة.

حاول الدستور الجديد أن يصلح نقائص القانون المنظِم للسلطات التي حكم البلاد خلال السنوات الأربع الماضية، وطوّر صلاحيات الرئيس المقبل للبلاد، لكن هذه الصلاحيات تبقى محدودة مقارنةً بتلك التي يتمتع بها رئيس الحكومة والبرلمان. ولهذا السبب تبقى الانتخابات التشريعية أهم بكثير من الانتخابات الرئاسية المقبلة برغم ما يظهر من اهتمام متزايد بالأخيرة.

وتميزت الحملة الانتخابية التشريعية لغالبية الأحزاب إلى حدّ الآن بحالةٍ من الهدوء "غير المنتظر" و"المبالغ فيه". لكنّ هذا الهدوء عكس وعياً سياسياً مشتركاً، برغم تجاوزات شابتة بعض الخطابات.

بقيت المخالفات في مجملها على مستوى الأخطاء الإجرائية وتعليق للقوائم في غير محلها أو تمزيق قائمات منافسة، وهي تجاوزات بسيطة وإنّ قدرت بالآلاف، ولا تمسّ في جوهر العملية الانتخابية.

وحده سؤال تمويل الحملات، يبقى من أهم الأسئلة المطروحة، ما دفع بالحكومة والبنك المركزي وهيئة الانتخابات إلى تكثيف التنسيق بينها لتسليط مزيد من الضغط على بعض القائمات والأحزاب وتهديدها بحرمانها من مقاعدها في المجلس المقبل، في حال ثبت جرم تجاوز السقف المحدد للتمويل أو تأكدت شبهات التمويل الخارجي، وهو عقاب يمكن أنّ يطبق على القوائم حتى بعد الانتخابات.

صحيح أنّ الحملة الانتخابية تميزت بحالة من الأمان، التي بدّدت مخاوف التهديدات الإرهابية التي تحيط بالانتخابات برمتها مثلما أشار إليه مسؤولو الحكومة التونسية، لكن الأيام المقبلة تبقى امتحاناً حقيقياً لقوى الأمن والجيش. تلك القوى رفعت من درجة يقظتها في الأيام الأخيرة وسخّرت عشرات الآلاف من عناصرها لتشديد الرقابة على المدن و المسالك الانتخابية.

ويبقى النجاح الأمني في تأمين الانتخابات من أكبر تحديات الحكومة التونسية، التي عانت كثيراً في الفترة الأخيرة من المجموعات المتشددة دينياً برغم سلسلة من الانجازات الأمنية، التي حققتها قوات الأمن في تفكيك هذه الخلايا وإحباط مخططاتها، والتي تؤكد وزارة الداخلية في كل مرّة أنها مخططات تهدف في الأساس إلى ضرب العملية الانتخابية أساساً، وبالتالي إرباك المسار الإنتقالي.

يُضاف إلى ذلك أن التجربة تحظى بحماية داخلية كبيرة تجسدها حالة اليقظة المستمرة لقوى المجتمع المدني، التي قامت بتجنيد وتكوين عشرات الآلاف من المتطوعين لمراقبة الحملات الانتخابية لغاية يوم الاقتراع ومراقبة المكاتب الانتخابية وعمليات الفرز. كما سيعمل هؤلاء المتطوعون على توعية المواطنين من بداية عمليات التسجيل مروراً بضرورة المشاركة المكثفة يوم الانتخابات، وصولاً إلى مضامين الانتخاب وتوعية الناخبين بمنع عمليات "شراء الأصوات".

وتلقى التجربة أيضاً دعماً خارجياً من المجتمع الدولي، أعلن عنه صراحة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، خلال زيارته إلى تونس منذ أيام. وتسانده بقية المنظمات الدولية الأخرى ودول الإتحاد الأوروبي والاتحاد الافريقي والجامعة العربية، التي سجلت حضورها في تونس منذ أيام، لمراقبة الحملات الانتخابية منذ بدايتها، ما يعكس حالة من الوعي الدولي بضرورة المساهمة في إنجاح هذه التجربة المفصليّة في المنطقة والتي يمكن أن تغير من شكلها تماماً.

هذا الدعم المتعدد الجهات للتجربة التونسية لا يبدد حالة من الريبة والانتظار التي تضمرها قوى إقليمية تزعجها التجربة، وتسعى إلى إفشالها بمساندة طرف على حساب آخر ومحاولة تأجيج حالة الانقسام. ولكنها محاولات فشلت إلى حد الآن في كسر "حالة الوعي العام" الداخلي التي تعكس إصرار التونسيين، الذين عبروا بشكل قاطع عن رغبتهم في طَي صفحة هذه الوضعية الانتقالية، التي طالت بالنسبة اليهم.