16 نوفمبر 2024
خيال سياسي: مملكة الجبل الأصفر
أعلنت سيدة أميركية من أصل لبناني، قبل أيام، عن مشروعٍ لإقامة دولة عربية جديدة باسم "مملكة الجبل الأصفر"، في أراض "مباحة"، تدعى بئر طويل، بين السودان ومصر. وتم وضع راية وطنية (عَلَم) لمشروع هذه الدولة، وقد جاء، في أرضيته الخضراء وتصدّر النخلة له، قريب الشبه بالعلم السعودي. وجرى تحديد مساحتها بـ 2060 كيلومتراً مربعا، بما يزيد عن ضِعف مساحة مملكة البحرين. ويعود اختيار اسم الجبل الأصفر إلى أن المنطقة تضم جبلا شاهقا ذا لون قريبٍ من الصفرة، علاوة على التشبّه باسم مملكة الجبل الأسود في غرب البلقان، لإضفاء الألفة على اسم المملكة الجديدة. وعلى الرغم من أن هذا المشروع ينتمي إلى فئة الخيال السياسي، أو حتى الكوميديا السياسية، إلا أنه يستثمر تحديات قائمة، ويحاول التبشير بوضع حل ناجع لها، ويسعى إلى استدراج دعمٍ لها. وقد أعربت من وصفت نفسها رئيسة مجلس وزراء المملكة (نادية ناصيف) عن ثقتها بأن الدولة الجديدة ستضم اللاجئين والمشرّدين ومكتومي القيد (التعبير الأخير يستخدم في لبنان لوصف المقيمين من مجهولي الهوية الوطنية)، وأن هذه الدولة سوف تشرع قريبا في استقبال طلبات الانتماء إليها والإقامة فيها بصفة مواطنين.
يصلح هذا المشروع بطبيعة الحال للتندر، على منصات التواصل وسواها، وقد حدث شيءٌ من ذلك. ولكن من قال إن عالم السياسة، في أيام الناس هذه، يحكمه المعنى، وتسوده العقلانية؟ وعلى هذا، فإن مشروع مملكة الجبل الأصفر يسعى إلى استثمار سيادة اللامعنى، مع إكسابه معنىً ما. ومن جهةٍ ثانية، ما بعد الحداثة، في أحد وجوهها، هي نزع المعنى عن الأشياء، والارتكان إلى كشوفات الأفراد، والانفصال عن العلة والوظيفة، وافتراق الشكل عن المضمون، وخلق الحقائق بدلاً من السعي إلى اكتشاف وجودها. وعليه، ومع بعض الكاريكاتيرية، فإن فكرة المملكة العتيدة هذه هي من الثمرات الفجّة هذه النظرية الثقافية. وأبعد من ذلك، إذا كان قد أمكن اختراع عملة رقمية بغير أوراق ونقود مالية، وبدون تغطيةٍ من المعدن النبيل (الذهب)، وبغير انتماء العملة إلى بلد بعينه، فلماذا لا يتم اختراع دولة، تساعد على حل مشكلات اللاجئين والمهاجرين، وبحيث تصبح بلدا يقيمه المهاجرون، كما هو حال أميركا مثلا؟
يوحي مشروع هذه الدولة أنه لا حل لمشكلات اللجوء، وأن الجميع متضرّرون سواء بسواء: من تسببوا باللجوء، ومن قاموا به، ومن قبلوا التعامل معه، كدول أوروبية وتركيا، ومن
رفضوا التعامل معه، مثل روسيا وإيران والصين والهند. ويوحي المشروع كذلك أن العنف الوحشي والافتئات الفظ على حقوق الإنسان لا يمكن الوقوف بوجهه، ولا حتى إدانته، فهو من "أعمال السيادة" حسب المفهوم الروسي، وأنه يتعين بدلاً من ذلك التماس حلٍّ خلاق، بإنشاء دولةٍ من الصفر، لم تقم من قبل ولا شعب سابقا لها، وتضم المقتلعين والمشرّدين، دولة وظيفية. ويمكن تكييف القانون الدولي لمنح هذا المشروع الشرعية، من قبيل القول إنه لا شيء يمنع إعلانها. علما أن القائمين على هذه الدولة، أو مؤسسيها، ليسوا من فئة المهاجرين، كما يدل على ذلك حديث ناصيف، إذ تشير إشارة عابرة إلى ملك هذه المملكة المجهول، ولقبه صاحب السمو الملكي. وبذلك يمكن الحديث عن شريحةٍ مستحدثة من رجال أعمال يقومون بمشاريع سياسية، كهذا المشروع الذي انتهى إليه اجتماعٌ جرى في أوكرانيا. وتحديد هذا البلد لا يعني شيئا معيناً، فهو بلد سياحي، يجتذب إليه أصنافاً شتى من السياح، بمن فيهم الحالمون بمشاريع سياسية ٍ"مبتكرة" يملأون بها سهراتهم.
لم تتطرّق ناصيف إلى الموارد الطبيعية لهذه الدولة المفترضة، وإذا كانت تتوفر على مياه أم لا، ومن سيوفر الأمن فيها. كما لم تشر إلى أية خطط زمنية لبعث المشروع والبدء بتطبيقه. لقد أطلقت، كما تفترض، فكرة جذّابة لمن يرغب بالاستثمار المالي والسياسي فيها. ولم تشر إلى الدولتين الجارتين، السودان ومصر، علما أن كلا من القاهرة والخرطوم امتنعتا عن إبداء التعليق، استخفافا بالمسألة، أو لتقصي الأهداف والغايات الكامنة وراء فكرتها والإعلان عنها. وبينما يتحدّث خبراء سودانيون بأن هذه الأراضي تتبع لبلدهم، فإنه لا يُستبعد، في حال تمسك السودان بأيلولة منطقة بئر طويل له، أن يتم مثلا التفكير باستئجارها مئة عام قابلة للتجديد مثلا، غير أن السيدة صرحت بأن مصدر تمويل هذه الدولة هو "الدعم الشخصي لمؤسّسيها"، بما يجعل من الفكرة مشروعا يزاوج بين عالمي السياسة والأعمال.
وبينما جاء توقيت الإعلان عن الفكرة في الخامس من سبتمبر/ أيلول الجاري لافتا، في ضوء الأحاديث المتواترة عن قرب الإعلان عن "صفقة القرن"، بما تتضمنه هذه من تصفيةٍ لقضية اللاجئين، فإن الفيديو التعريفي يتحدّث بالقول "إن المملكة تؤكد موقفها الثابت والرئيس تجاه القضية الفلسطينية والمواطن الفلسطيني الذي صدر بحقه قرار الأمم المتحدة بشأن حق العودة لديارهم التي هجروا وشردوا منها". وهكذا فقد أصبح للمملكة المزعومة مواقف ثابتة ورئيسة!، بينما وجود هذه المملكة غير ثابت. ويبدو أن رئيسة الوزراء الناطقة لم تُسعفها الملكات اللغوية، سوى في استعارة نموذج تقليديٍّ لبياناتٍ عربيةٍ تقليدية تتحدّث عن "الموقف الثابت"، وهذه، على كل حال، الفقرة السياسية الوحيدة في البيان التأسيسي.
وبينما يوحي البيان أن منطقة بئر طويل غير مأهولة بشريا، فإن خبيرا عسكريا سودانيا، هو
اللواء يونس محمود، يقول إن "هذه المنطقة يسكنها عدد من قبائل العبابدة وبني عامر والبشاريين والكنوز والرشايدة، وأغلبهم رعاةٌ متنقلون ما بين مصر والسودان". ولكن بما أنهم رعاة، فإنه يمكن، وفق الخيال الواسع، تصور أن يتم التفاهم معهم وتوطينهم.
هكذا، لا يبتعد كثيرا ما يوحي به المشروع من هزل ولاواقعية عن اللامعنى الذي يحكم السياسة الدولية، من قبيل أن إبادة الشعب السوري تعتبر أفضل وسيلة لمكافحة الإرهاب، وعلى شاكلة انهماك أكبر رئيس دولة بإقالة كبار المسؤولين فيها بدون انقطاع، ومن نوع الأفكار العبقرية التي طرحها وزير خارجية لبنان، جبران باسيل، إن جينات أبناء بلده تتفوّق على جينات السوريين والفلسطينيين، ومثله جوقة من الشعبويين، بعضم حكم بلدا صناعيا متقدّما هو إيطاليا، ومن طراز عزم الجنرال الليبي، خليفة حفتر، على إقامة دولة مدنية.
ويبقى الأسوأ في الموضوع هو النزعة "الاستعمالية" للاجئين والمهاجرين والمحرومين من الجنسية، فبدلاً من تمكينهم من العودة إلى مواطنهم، وإزالة الأسباب التي أفضت إلى تهجيرهم، أو منحهم الجنسية التي يستحقونها، فإن العقل السياسي المتشاطر ينشغل في البحث عن مأوى مصطنع لهم، مع تحويل هذا المأوى، بعد منحه صفة دولة، إلى مجالٍ للاستثمار والبيع والشراء.
يوحي مشروع هذه الدولة أنه لا حل لمشكلات اللجوء، وأن الجميع متضرّرون سواء بسواء: من تسببوا باللجوء، ومن قاموا به، ومن قبلوا التعامل معه، كدول أوروبية وتركيا، ومن
لم تتطرّق ناصيف إلى الموارد الطبيعية لهذه الدولة المفترضة، وإذا كانت تتوفر على مياه أم لا، ومن سيوفر الأمن فيها. كما لم تشر إلى أية خطط زمنية لبعث المشروع والبدء بتطبيقه. لقد أطلقت، كما تفترض، فكرة جذّابة لمن يرغب بالاستثمار المالي والسياسي فيها. ولم تشر إلى الدولتين الجارتين، السودان ومصر، علما أن كلا من القاهرة والخرطوم امتنعتا عن إبداء التعليق، استخفافا بالمسألة، أو لتقصي الأهداف والغايات الكامنة وراء فكرتها والإعلان عنها. وبينما يتحدّث خبراء سودانيون بأن هذه الأراضي تتبع لبلدهم، فإنه لا يُستبعد، في حال تمسك السودان بأيلولة منطقة بئر طويل له، أن يتم مثلا التفكير باستئجارها مئة عام قابلة للتجديد مثلا، غير أن السيدة صرحت بأن مصدر تمويل هذه الدولة هو "الدعم الشخصي لمؤسّسيها"، بما يجعل من الفكرة مشروعا يزاوج بين عالمي السياسة والأعمال.
وبينما جاء توقيت الإعلان عن الفكرة في الخامس من سبتمبر/ أيلول الجاري لافتا، في ضوء الأحاديث المتواترة عن قرب الإعلان عن "صفقة القرن"، بما تتضمنه هذه من تصفيةٍ لقضية اللاجئين، فإن الفيديو التعريفي يتحدّث بالقول "إن المملكة تؤكد موقفها الثابت والرئيس تجاه القضية الفلسطينية والمواطن الفلسطيني الذي صدر بحقه قرار الأمم المتحدة بشأن حق العودة لديارهم التي هجروا وشردوا منها". وهكذا فقد أصبح للمملكة المزعومة مواقف ثابتة ورئيسة!، بينما وجود هذه المملكة غير ثابت. ويبدو أن رئيسة الوزراء الناطقة لم تُسعفها الملكات اللغوية، سوى في استعارة نموذج تقليديٍّ لبياناتٍ عربيةٍ تقليدية تتحدّث عن "الموقف الثابت"، وهذه، على كل حال، الفقرة السياسية الوحيدة في البيان التأسيسي.
وبينما يوحي البيان أن منطقة بئر طويل غير مأهولة بشريا، فإن خبيرا عسكريا سودانيا، هو
هكذا، لا يبتعد كثيرا ما يوحي به المشروع من هزل ولاواقعية عن اللامعنى الذي يحكم السياسة الدولية، من قبيل أن إبادة الشعب السوري تعتبر أفضل وسيلة لمكافحة الإرهاب، وعلى شاكلة انهماك أكبر رئيس دولة بإقالة كبار المسؤولين فيها بدون انقطاع، ومن نوع الأفكار العبقرية التي طرحها وزير خارجية لبنان، جبران باسيل، إن جينات أبناء بلده تتفوّق على جينات السوريين والفلسطينيين، ومثله جوقة من الشعبويين، بعضم حكم بلدا صناعيا متقدّما هو إيطاليا، ومن طراز عزم الجنرال الليبي، خليفة حفتر، على إقامة دولة مدنية.
ويبقى الأسوأ في الموضوع هو النزعة "الاستعمالية" للاجئين والمهاجرين والمحرومين من الجنسية، فبدلاً من تمكينهم من العودة إلى مواطنهم، وإزالة الأسباب التي أفضت إلى تهجيرهم، أو منحهم الجنسية التي يستحقونها، فإن العقل السياسي المتشاطر ينشغل في البحث عن مأوى مصطنع لهم، مع تحويل هذا المأوى، بعد منحه صفة دولة، إلى مجالٍ للاستثمار والبيع والشراء.