خيبتنا مع الديمقراطية
لقد خرجت علينا، مؤخراً، العديد من الأقلام التي تقدم لشباب الحراك دروساً في الوطنية والتشكيك في مصداقية وهيبة الدولة ورموزها، وتلبس أفراد المجتمع أبشع التهم والجرائم وكأنها وحدها التي ترى أموراً لا يراها غيرها. لتجعل من الدولة كياناً مستقلاً قائمًا هناك، منفصلاً عن الشعب. وكان على الشعب، برأيهم، أن يخدم ويمتثل لجهاز خارج عنه مفروض عليه من فوق. مزكية بذلك مقولة أن الشعب المغربي قاصر، ولا يعرف ما يفعل، وهو مثل شاب مراهق يخرب مستقبله دون أن يدري، ويستوعب أبعاد مقولة الدولة الحديثة، أو دولة المؤسسات ولا يستوعب العملية الديمقراطية، وربما هي أقلام تخاف على الشعب المغربي من الحرية، والكرامة، وحقوق الإنسان التي قد لا يجيد استخدامها، وهذا من سخرية قدرنا مع هؤلاء.
سمعنا كثيراً مثل هذه الأطروحات التي تخدم مصالحها ومصالح قوى رجعية، وتقدم دروساً في أهمية الدولة الحديثة، دون أن تعي أن ماهية الحداثة تقتضي إعمال العقل والنقد الذي يجب أن توجه سهامه إلى الدولة أولاً، ومؤسساتها لتقييم أدائها، وتقويم ركائزها وفعالياتها في ضمان حقوق الناس، وتوفير أمنهم وحريتهم خصوصاً وأن الحرية، هي الغاية من تأسيس الدولة كما قال أسبينوزا يوماً.
إن ثقة الدولة لا تطلب من الشعب، ولكنها تنتزع منه، تنتزعها المؤسسات التي وضع الشعب المغربي ثقته فيها بعد مسيرة من الانخراط والإيمان بالعملية الديمقراطية، رغم نسب المشاركة المحتشمة، ودعوات المقاطعة المستمرة. وبدل أن تزكّي الدولة الحديثة قيمة السياسة، وجدوى العملية الديمقراطية، وتثبت جدارتها كدولة مؤسسات في تحقيق المساواة والحرية، راحت ملفات الفساد تنشر على صفحات التواصل الاجتماعي مثل الغسيل. هنا أدركت الأغلبية كما يقول، كارن روس، في كتابه "الثورة بلا قيادات": "أن لا أحد سواهن سيقوم بحل مشكلاتهم. ففعل الحد الأدني المتمثل في الاقتراع أو التصويت، صار متناقض القدرة بإطراء على أن يشكل حلاً مناسباً".
بهذا الأمر، حصل نوع من الانفصال بين الحكومة والشعب، وهذا ما عبر عنه أحد قادة الريف مؤخراً عندما وصف الدولة بكونها هي الانفصالية، بعدما ألبس البعض تهمة الانفصال لحراك الريف بالمغرب. ويعني هذا أن الدولة هي التي انفصلت وابتعدت عن هموم الشعب وحماية وضمان حقوقهم ومصالحهم. وبدل أن توجه النقود والتحليلات إلى تشريح مرض المؤسسات وفضح الفساد الذي يعصف بمصداقية الدولة والممارس من قبل فئة معينة، راحت بعض الجهات تؤلّب الشعب المغربي بعضه على بعض في مسرحية بئيسة تعمق من جروحه المدمية. دون أن يقف عاقل ليقول ببساطة أن الحكومة عندما تفشل في تحمل المسؤولية، وتحسن استعمال الوكالة، فمن الطبيعي أن يبادر الشعب.
يمكن القول، إذن، إن الحراك الاجتماعي هو مبادرة جماهيرية لاستعادة الوكالة التي منحت للحكومة، بعد الفساد الذي شاب الميثاق. ولسان حالهم يقول "مفتقرون إلى التحكم، لابد لنا من الإمساك بزمام التحكم من جديد"، كما قال كارن روس. لأن فساد الميثاق ينشأ عن الشرخ المتسع بين الناخبين وممثليهم. الأمر الذي يعني أن كلمة التحكم التي دخلت القاموس السياسي المغربي والتي تشير إلى التحكم الخفي الأتي من فوق، فلابد أنها فضحت للناس زيف العملية الديمقراطية، وصورت المنتخبين بكونهم مُجرّدين من السلطة باسم التحكم، ودفعت الناس بالتالي إلى ضرورة جعل هذا المفهوم يمشي على رجليه بعدما أصبح يمشي على رأسه. مما يعني الوفاء والانتصار للقاعدة التاريخية: التحكم للشعب، والدولة القوية هي التي تجيد وتحسن الإنصات لكافة أصوات أفرادها.
إن جيل الحراك بالمغرب لا يحتمل جسمه كل المقاصات المفصلة له. ولكن يمشي معه أن نلبسه تهمة أنه لا يريد أن يظل مغترباً في وطنه. فاغتراب الحكومة عن الناس، اغتراب بعضنا عن البعض الآخر، هو الذي يهدد استقرارنا الهش أكثر من أي أخطار أخرى. إن حلمهم لا يتعدى حفنة تراب من وطن مثل أم حنون تُرضِع جميع أبنائها، لا تفرق بين أحدٍ منهم، يكبرون في عزها، وتنتزع منهم طاعتها بقوة حنانها.