06 نوفمبر 2024
درس "النهضة" التونسية
في خطوةٍ شجاعةٍ، قرّرت حركة النهضة التونسية الفصل رسمياً بين الدعوة والسياسة، في نشاطها العملي، والتحول إلى حزبٍ سياسي مدني. قرار "النهضة"، التي كانت أول حركة إسلامية تصل إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع في دول الربيع العربي، أعلنت عنه في أثناء انعقاد مؤتمرها العاشر الذي انتهت أشغاله بإعادة انتخاب راشد الغنوشي على رأسها لولاية جديدة، وهو الذي وصف هذا الفصل بأنه "نأي بالدين عن المعارك السياسية، وتحييد كامل للمساجد عن خصومات السياسة والتوظيف الحزبي". ووصف الحزب الذي باتت تمثله "النهضة" بأنه "ديمقراطي وطني متفرغ للعمل السياسي بمرجعية وطنية، تنهل من قيم الإسلام".
لفت قرار حركة النهضة الانتباه، مرة أخرى، إلى تونس التي انطلقت منها شرارة الربيع العربي قبل خمس سنوات. يأتي الدرس الجديد من تونس الثورة، بما أن "النهضة" أول حركة تنتمي إلى التيار الإسلامي تقرّر خلع جُبة الدعوة عنها، وتعلن انحيازها الطوعي إلى الممارسة السياسية المدنية. ويجد المتتبع مسار الحركة في تونس، منذ انطلقت في ثمانينيات القرن الماضي حركة دعوية، ثم تطورت إلى حركة احتجاجية معارضة في عهد الدكتاتور التونسي الهارب، وأصبحت، بعد الثورة، أول حزب إسلامي حاكم في المنطقة العربية، أن هذا الانتقال من المجال الدعوي إلى المجال الحزبي والعمل السياسي المدني نتيجة تراكم تجارب هذه الحركة، التي ما فتئت تجدّد نفسها بطريقةٍ ملفتةٍ للانتباه، وملهمةٍ للتيارات الإسلامية، التي تسعى إلى اقتحام المجال السياسي.
فحركة النهضة تمثل، اليوم، مدرسة لتيارات "الإسلام السياسي" في المنطقة والعالم، فهي كانت سباقةً إلى فتح حوارات مع العلمانيين واليساريين، في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، عندما كان رموز هذه التيارات المعارضة يقيمون في المنافي، وكان من نتائج تلك الحوارات أن تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس، بعد الثورة، مرّت بأقل الأضرار عكس ما حدث في دول المنطقة الأخرى التي انتصرت فيها الثورات المضادة، أو انقلبت ثورات شعوبها إلى فوضى وحروب دامية، بسبب عدم التوافق بين التيارات المختلفة التي أفرزتها الثورات العربية. ويحسب لحركة النهضة، (ولزعيمها الغنوشي) دورهما المهم في العبور ببلادهما بسلام من وسط إعصار ما بعد ثورات الربيع العربي، عندما قرّرت التنازل، أكثر من مرة، وهي في أوج قوتها. تنازلت أول مرة عن بعض مواقفها الأيديولوجية للوصول إلى دستورٍ توافقي، صادقت عليه جميع تيارات المجتمع. وتنازلت ثانية، وهي في أوج قوتها، عن السلطة، لتفسح المجال لانتقال سياسي سلس، ما زالت تعيشه تونس. وتنازلت ثالثة عن حقها في تقديم مرشح في الانتخابات الرئاسية، التي شهدتها تونس ما بعد الثورة. وهي اليوم تقدّم أكبر تنازل، عندما تعلن عن قرارها الطوعي، بفصل نشاطها الدعوي عن عملها السياسي.
وفي هذا القرار شجاعة ومغامرة، يجب تقديرهما وحسبانهما لحركة النهضة. تكمن الشجاعة في
أنها بادرت إلى قرارها، وهي في لحظة قوة، بما أنها تشكل اليوم القوة السياسية الأولى داخل البرلمان وداخل المجتمع، فهي لم تجبر عليه، وإنما سعت إليه بمحض إرادتها. والمغامرة لأنها اتخذت قراراً صعباً لم تسبقها إليه أية حركة إسلامية في المنطقة، وهي مقبلة على استحقاقاتٍ حاسمةٍ السنة المقبلة، إذ من المتوقع أن تشهد البلاد أول انتخاباتٍ محليةٍ منذ قيام الثورة. وباستحضار أهمية الانتخابات البلدية للحركات المجتمعية، و"النهضة" من أبرز نماذجها اليوم، ندرك حجم الخطوة الكبيرة التي أقدمت عليها هذه الحركة. فهي لم تغامر فقط برصيدها الشعبي الكبير داخل المجتمع التونسي، والذي ظلت تغذيه عدة سنوات بجمعها بين العملين، الدعوي والسياسي، وإنما وضعت نفسها أم رهانٍ صعب، لأن الاستحقاقات المقبلة ستكون، بالفعل، أكبر اختبار لقياس مدى جدية هذا الفصل الذي أعلنت عنه بين نشاطيها، الدعوي والسياسي.
لأن هناك من يشكّك في جدية هذا الفصل، بما أن الحديث جاء عن الفصل بين الدعوة والسياسة، وليس بين الدين والسياسة، والفرق هنا واضح وكبير جداً. فالدعوة مجرد نشاط كما النشاط السياسي، أما الدين فمجموعة من القيم المرجعية التي تعتمد عليها تيارات "الإسلام السياسي"، لبناء تصورها للدولة والمجتمع. والمعروف أن التوظيف السياسي للدين لا يمرّ بالضرورة عبر الدعوة، وإنما عبر الخطاب، كيفما كانت حمولته عندما يكون له تأثير سياسي. والواقع أن خطاب زعماء "النهضة" ما زالت تغلب عليه النفحة الدينية، وأكبر مؤسسة تنفيذية داخل الحزب تسمى مؤسسة "الشورى"!
لذلك، يرى المشككون في نيات الحركة بأن فصل السياسة عن الدعوة قد لا يعني، بالضرورة، فصلها عن الدين. والأخيران، أي الدين والسياسة، يشكلان ثنائية متناقضة ومتنافرة، وتربطهما، في الوقت نفسه، علاقات متداخلة وغير واضحة. وستكون الاستحقاقات الانتخابية المقبلة في تونس، البلدية منها عام 2017، أو الرئاسية عام 2019، المحك الحقيقي لاختبار مدى جدية الفصل الذي أعلنت عنه "النهضة"، وحتى يثبت الواقع العكس يبقى قرار الحركة خطوةً مهمةً في تحرير العمل السياسي من سلطة الدين في منطقتنا العربية.
لفت قرار حركة النهضة الانتباه، مرة أخرى، إلى تونس التي انطلقت منها شرارة الربيع العربي قبل خمس سنوات. يأتي الدرس الجديد من تونس الثورة، بما أن "النهضة" أول حركة تنتمي إلى التيار الإسلامي تقرّر خلع جُبة الدعوة عنها، وتعلن انحيازها الطوعي إلى الممارسة السياسية المدنية. ويجد المتتبع مسار الحركة في تونس، منذ انطلقت في ثمانينيات القرن الماضي حركة دعوية، ثم تطورت إلى حركة احتجاجية معارضة في عهد الدكتاتور التونسي الهارب، وأصبحت، بعد الثورة، أول حزب إسلامي حاكم في المنطقة العربية، أن هذا الانتقال من المجال الدعوي إلى المجال الحزبي والعمل السياسي المدني نتيجة تراكم تجارب هذه الحركة، التي ما فتئت تجدّد نفسها بطريقةٍ ملفتةٍ للانتباه، وملهمةٍ للتيارات الإسلامية، التي تسعى إلى اقتحام المجال السياسي.
فحركة النهضة تمثل، اليوم، مدرسة لتيارات "الإسلام السياسي" في المنطقة والعالم، فهي كانت سباقةً إلى فتح حوارات مع العلمانيين واليساريين، في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، عندما كان رموز هذه التيارات المعارضة يقيمون في المنافي، وكان من نتائج تلك الحوارات أن تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس، بعد الثورة، مرّت بأقل الأضرار عكس ما حدث في دول المنطقة الأخرى التي انتصرت فيها الثورات المضادة، أو انقلبت ثورات شعوبها إلى فوضى وحروب دامية، بسبب عدم التوافق بين التيارات المختلفة التي أفرزتها الثورات العربية. ويحسب لحركة النهضة، (ولزعيمها الغنوشي) دورهما المهم في العبور ببلادهما بسلام من وسط إعصار ما بعد ثورات الربيع العربي، عندما قرّرت التنازل، أكثر من مرة، وهي في أوج قوتها. تنازلت أول مرة عن بعض مواقفها الأيديولوجية للوصول إلى دستورٍ توافقي، صادقت عليه جميع تيارات المجتمع. وتنازلت ثانية، وهي في أوج قوتها، عن السلطة، لتفسح المجال لانتقال سياسي سلس، ما زالت تعيشه تونس. وتنازلت ثالثة عن حقها في تقديم مرشح في الانتخابات الرئاسية، التي شهدتها تونس ما بعد الثورة. وهي اليوم تقدّم أكبر تنازل، عندما تعلن عن قرارها الطوعي، بفصل نشاطها الدعوي عن عملها السياسي.
وفي هذا القرار شجاعة ومغامرة، يجب تقديرهما وحسبانهما لحركة النهضة. تكمن الشجاعة في
لأن هناك من يشكّك في جدية هذا الفصل، بما أن الحديث جاء عن الفصل بين الدعوة والسياسة، وليس بين الدين والسياسة، والفرق هنا واضح وكبير جداً. فالدعوة مجرد نشاط كما النشاط السياسي، أما الدين فمجموعة من القيم المرجعية التي تعتمد عليها تيارات "الإسلام السياسي"، لبناء تصورها للدولة والمجتمع. والمعروف أن التوظيف السياسي للدين لا يمرّ بالضرورة عبر الدعوة، وإنما عبر الخطاب، كيفما كانت حمولته عندما يكون له تأثير سياسي. والواقع أن خطاب زعماء "النهضة" ما زالت تغلب عليه النفحة الدينية، وأكبر مؤسسة تنفيذية داخل الحزب تسمى مؤسسة "الشورى"!
لذلك، يرى المشككون في نيات الحركة بأن فصل السياسة عن الدعوة قد لا يعني، بالضرورة، فصلها عن الدين. والأخيران، أي الدين والسياسة، يشكلان ثنائية متناقضة ومتنافرة، وتربطهما، في الوقت نفسه، علاقات متداخلة وغير واضحة. وستكون الاستحقاقات الانتخابية المقبلة في تونس، البلدية منها عام 2017، أو الرئاسية عام 2019، المحك الحقيقي لاختبار مدى جدية الفصل الذي أعلنت عنه "النهضة"، وحتى يثبت الواقع العكس يبقى قرار الحركة خطوةً مهمةً في تحرير العمل السياسي من سلطة الدين في منطقتنا العربية.